الزاوية الكمشخانوية / الزاوية الكمشخانوية

عبد العزيز بكِّينة أفندي القازاني رحمه الله

لقد اهتمّ عبد العزيز أفندي رحمه الله عن قربٍ بمُثقفي ذلك الزمن ومنسوبي جامعاته وشبابه الطلبة، واجتمع في بيته وتحدّث طويلا مع الجميع من يصلّي منهم ومن لا يُصلّي، حتّى من رأى عنده منهم ضعفا في مسائل الاعتقاد. وكان يجد متعة خاصّة في خدمة شباب الجامعة في بيته ولم يبخل عليهم بهمّته، فيُجيب على أسئلتهم ويسعى إلى حلّ مشاكلهم. [وفي هذا الصدد]

القراءة بلغة أخرى

وُلد الشيخ عبد العزيز أفندي سنة 1313/ 1895 ببيتِه الذي في إسطنبول مرجان. ووالده هو التاجر القازاني خالص أفندي الذي كان شخصية غنيّةً وذات اعتبار وكان درويشا ترقى في التصوف ونال فيه درجات معنوية.

بدأ عبد العزيز أفندي تحصيله العلمي في سنّ مبكّرة من خلال دراسته للعربية والعلوم الإسلامية على يد خليل أفندي إمام جامع قبطان باشا. ثم أكمل بعد ذلك الدراسة في مكتب دار التدريس.

بعد أن قضى جزءا من طفولته في إسطنبول انتقل في العشريات من القرن العشرين مع عائلته إلى موطنه قازان حيث كان لهم بيتٌ وأراضٍ هناك. وبعد أن بقي مدّة هناك رحل إلى بخارى واشتغل فيها بتحصيل العلم لمدّة خمس سنوات قبل أن يعود من جديد إلى قازان. وقد تحدّث عن أيامه هناك فقال:

"منذ أن كان عمري خمس أو ستّ سنوات لم أنَم بعد السحر أبدا. وعندما كنت أبلغ من العمر سبع أو ثمان سنوات كنت أخرج بعد صلاة الصبح إلى حديقتنا كبيرة الأشجار فأظلّ لساعات وأنا أُنصتُ إلى تغريد العصافير قائلةً "هو" وهي تذكر الله. ولم يكُن والدي يُكلّفني بأي عمل ويقول لي: استرِح ما دُمتُ أنا بصحة جيدة أيُّها الولي، وستعملُ من بعدي".

مع وفاة والده انتهت أيام سعادته في بيته الواسع ذي الثلاثين غرفةً كانت مخصّصة لمجالسه وللطلبة المشتغلين بالتحصيل العلمي. كما وقع الاحتلال الروسي أيضا في تلك الأثناء. فأخذ عبد العزيز أفندي إخوته وعاد إلى إسطنبول من جديد سنة 1921. وقد كان له خمسة عشر أخا وأختا لأمّين اثنتين، اثنا عشر بنتًا وثلاثة من البنين. وبالرغم من أنه افتتح دكّانا مع إخوته الذكور في أسما ألطي، إلا أن اشتغاله بالتجارة استمرّ لوقت قصير جدّا. وعلى إثر ذلك بمدّةٍ واصل الدراسة بمدرسة بايزيد في تشارشي كابي.

كانت أول وظيفةٍ له في الإمامة بمنطقة بايكوز، ثمّ في جامعٍ بآق سراي. ثم تولّى الإمامة والخطابة على التوالي في كلٍّ من مساجد يازجي بابا وكفلي وزيرك جيوي زاده أمّ كلثوم. وقد استمرّت وظيفته في مسجد زيرك مدّة ثلاث عشرة سنة.

على إثر عودته من قازان إلى إسطنبول قام بزيارة العديد من التكايا والشيوخ. ومن بين هؤلاء حسين الصغير أفندي خليفة الشيخ النقشبندي حجي فيض الله أفندي. حيث كان حسين الصغير أفندي الهادئ والظريف والمحبوب في زمانه جالسا حينها تحت ساعة حائطية منحني الرأس وهو يقوم بالمراقبة. وكان عزيز أفندي أيضا منحني الرأس وهو جالس أمامه منتظرا. وبعد مدّة بدأ في الاستماع إلى الساعة وهي تذكر الله. فقد كانت الساعة تذكر اسم الجلال في كلّ دقّة من دقاتها. وفي ما يلي بقيّة الحكاية على لسانه هو:

"حينها فتحت عينيّ وفتح الشيخ عينيه أيضا وقال لي: 'يا درويشنا، يبدوا أنكم شعرتم بذكر الساعة؟' فقُلتُ [في نفسي]: 'تمام، هذا الشيخ تؤخذُ منه الدّروس'. وقلت له: "يا سيدي، بعد إذنكم أريد أن أدرس على يديكم"، فنصحني قائلا: 'ليس لك نصيبٌ عندنا يا ولدي، ابحث وستجد. ولكن عليك بطلب الدّروشة، كُن درويشا، وإياك أن تطلب الإرشاد لأن الإرشاد صعب جدّا'. والآن أدركتُ أنه صعبٌ جدّا".

وأخيرا وجد ما كان يبحث عنه بعدما تعرّف على مصطفى فيضي أفندي التكيرداغي رحمه الله بواسطة صديق دراسته محمد زاهد كوتكو رحمه الله. وبذلك وصل بعشقه الإلهي الذي ظلّ يحترق بداخله منذ سنّ مبكّرة إلى الكمال من خلال همّة مُرشِده. وفي نفس السنة تحصل على صلاحيّة الإرشاد في العلوم المعنوية وإجازة تدريس راموز الأحاديث وهو في سن السابعة والعشرين.

يذكُر عبد العزيز أفندي رحمه الله خلوةً لشيخه في مراقبته المعنوية فيقول:

"قال الشيخ: 'لدينا خلوة'، فأخذ الجميع جلودهُم [جلد الشاة]. وكُنت أنا إنسانا ضعيفا ورقيقا، فأخذت أنا أيضا جلدي وجئت. وكان الشيخ عند الباب يُدخل الجميع واحدا واحدا، فلما جاء دوري قال لي: 'اذهب وأحضر فراشك'، فحزنتُ كثيرا واستغربتُ وبكيتُ. ثم ذهبت لأخذ فراشي وأنا أقول في نفسي: 'كيف تكون هذه دروشة، بينما يدخل الجميع بجلودٍ أدخُل أنا بفراشٍ' وقدمتُ إلى الباب. فبينما أنا داخلٌ انحنى نحوي شيخي وهمس في أذني قائلا: 'المُعطي هو الله جل جلاله، فهو يعطي على الفراش كما يعطي على الجلد'. وهكذا دخلت الخلوة وأنا على الفراش. ثمّ إنني لم أقُل ولم أكتُب في حياتي نظمًا أبدا، ولم يسمحوا لي بذلك. لأنني ذات يومٍ شعُرت أثناء الخلوة بحاجة ماسّة لقول كثير من الأشياء وبدأت بتدوينها، لقد كانت تقريبا تكفي لملء كُتُبٍ بالقصائد. ثمّ وضعت يدي على فمي فأغلقته وبقيت منتظرا. حينها انسابت من فمي بعض الكلمات، ولم أكُن في حياتي قد قلت جملة واحدة في جميع خلواتي. قلت حينها: 'جمال الله نوره، نور جمالك يا رسول الله'. وفي تلك اللحظة بالضبط دخل الشيخ من الباب وجاء إلى جانبي فقال: ' ابتلع، ابتلع، ابتلع'. فلم يخرج من فمي أي شيء بعد ذلك".

كان عبد العزيز أفندي ذا رأس كبير وذقن مدبّب وعينين زرقاوين ووجهه بلون القمح المائل إلى الصّفرة. وكانت بشرته بيضاء ولحيته صفراء طويلة وغير كثيفة. كان صاحب قوامٍ يُذكّر بسيدنا عليّ. كان طويل القامة، قويا، عريض الصدر وصاحب مظهر مهيب. وكانت له مشية خاصّة تمتاز بانحنائه إلى الأمام وبيديه المترابطتين خلفه. كان في الغالب لا يركب العربات ويمشي إلى وجهته سيرا على الأقدام.

كان الشيخ حسيب أفندي شيخ التكية السابق لعبد العزيز أفندي والذي يكبُره بثلاثين عاما يقول عنه: "[إنّه رجُلٌ] بيتُهُ تكيّةٌ وعملُه مع الله". فقد كان عبد العزيز أفندي يجلس إلى الصباح غير عابئ بليلٍ ولا بنهارٍ وهو يشرحُ ويسعى إلى إقناع مُخاطَبه ليكون سببا في هدايته. وكان يقودُ المقبلين على هذا الطريق في ترقّيهم المعنوي. كما أنه خرّجَ الآلاف من الطلبة ودرّس راموز الأحاديث مرّات عديدة.

قام الشيخ عبد العزيز أفندي بأوّل حجٍّ له تحت ستارٍ سرّيّ. حيث قال سنة 1942 بأنه ذاهب للحج وخرج. فعبر الحدود من دون جواز سفر ولا تحضير مسبق، ولم يعرف أحد كيف تمكن من العبور. ثمّ مكث بقريةٍ في سوريا لمدّة خمسة أيامٍ فسعِد أهل القرية بمُجالسته. وعندما جاؤوا لتوديعه بكوا جميعا وهم يقولون: "ليتنا لم نتعرّف عليك أبدا يا شيخنا". وبالفعل كانت مجالس عزيز أفندي لا يُشبعُ منها، وكان صاحب جمال خاصّ.

يذكرون أن من يستمع لحديثة مرّة لا يفوّته بعد ذلك أبدا بفضل قدرته على مخاطبة جميع الناس من مختلف الفئات والأعمار كُلٌّ على حِده، وبفضل أسلوبه الوجيز المثير للاهتمام والقائم في عمومه على مبدأ السؤال والجواب.

ذات مرّة حضر مجلسهُ نور الدين طوبجو -الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة من السوربون- بواسطة صديقٍ له. وبينما هما يغادران المجلس عند منتصف الليل وقبل أن يخرجا من الباب الخارجي تردّد طوبجو قليلا وقال لصديقه: "هل من العيب أن ندخل من جديد إلى الداخل؟".

وبعد هذه المقابلة ازداد وتواصل حبُّ نور الدين طوبجو للشيخ عزيز أفندي وارتباطه به.

قال المرحوم طوبجو ذات يوم: "يا شيخي نحن غافلون جدا". فأجابه عزيز أفندي: "طبعا نحن غافلون، لو لم نكن غافلين لما تمكّنا من فعل شيء".

ذات يوم أثناء مرض عزيز أفندي كان نور الدين طوبجو يتبرّد بالمروحة فقال له الشيخ: "أليس لديك ما تفعله؟". قال طوبجو: "لا يا سيدي". فقال الشيخ: "وهل هناك عمل أفضل من هذا؟" وهو يشير إلى أنّ خدمة المرشد عملٌ جدير بالتقدير.

كان الشيخ في خُطبه يأخذ بيده أيّ كتابٍ [يصادفه]، ولكنه كان يتكلّم ارتجالا.

كان هناك حديقة واسعة في الطرف الخلفي من مسجد زيرك. هناك كان يعقد مجالس قليلة العدد في جوّ لطيفٍ أيام الصيف تحت شجرة تينٍ نابتةٍ فوق سدٍّ في إحدى الزوايا، أو في غرفة فسيحةٍ في الطابق السفليّ بمنزله. وكلى الموقعين كانا مطلان على السليمانية من منظورٍ واسع.

كان عزيز أفندي فدائيّا لدرجة أنّه مستعدّ للتضحية بعُمره وعلمه وماله وعائلته في سبيل الله عز وجل. ولم يكن يبخل بروحه أبدا، فإلى حدود أربعة أيامٍ قبل رحيله كان ينصح أحبابه إلى منتصف الليل بصوته الذي بالكاد يُسمع بسبب مرضه.

لقد كانت له ثلاث خصال يصعب العثور عليها في إنسان واحد مجتمعة، وهي: نكران الذات والإخلاص والقناعة.

لم يكن له مثيلٌ في الكرم بوقته لمن يطرق بابه. ففي أي ساعة من ساعات الليل، كان يقول: "إذا كانت غرفة المجلس مضاءة يمكنكم أن تطرقوا الباب وتدخلوا".

على إثر مسير حسيب أفندي إلى الحقّ سنة 1949 قام شيخ التكية من بعده عبد العزيز أفندي بإبقاء بابه مفتوحا أمام المحبين والزوار ليلا ونهارا. وبإدراكه لكونِ وقته محدود جدّا، بذل جهدا بالغا للقيام بوظيفة الإرشاد على الوجه الأمثل.

كان يوصي من يأتي إليه بالاختيار ويقول لهم: "باب واحدٌ أي كلّ الأبواب، وكلّ الأبواب أي لا باب". وبالفعل، من لا يعرفون الاختيار يجدون صعوبة دومًا في إدراك قيمة الاختيارات وفي تحديد أماكنهم.

لقد اهتمّ عبد العزيز أفندي رحمه الله عن قربٍ بمُثقفي ذلك الزمن ومنسوبي جامعاته وشبابه الطلبة، واجتمع في بيته وتحدّث طويلا مع الجميع من يصلّي منهم ومن لا يُصلّي، حتّى من رأى عنده منهم ضعفا في مسائل الاعتقاد. وكان يجد متعة خاصّة في خدمة شباب الجامعة في بيته ولم يبخل عليهم بهمّته، فيُجيب على أسئلتهم ويسعى إلى حلّ مشاكلهم. [وفي هذا الصدد] يقول أحد المتردّدين على مجالس الشيخ في ذلك الوقت:

"في ذلك الوقت كنا نذهب كشبابٍ إلى عزيز أفندي، فيأخذ بنواصينا إلى السجود. كان شخصا قديرا ومحترما ومهمّا جدّا أعاننا في الجامعة من جميع الجوانب ومنحنا الاستقامة ودفعنا دفعات إيجابية. وكان هو صاحب مقولة: 'خدمة الشعب، خدمة للحق'".

لم يكن مسجد زيرك الذي تولّى فيه عزيز أفندي الإمامة مجرّد مسجدٍ فقط، بل صارت له وظيفة ثانية في ذات الوقت تتمثل في كونه مؤسسة فكرية وعلمية ومركزا للاستفادة والاستشارة مخصصا للمولعين بحبّ العطاء.

في تلك المرحلة كان مكتب الكمشخانوي كما هو دأبه دائما يُرشد رجال العلم ورجال الفكر والطلبة من جميع المستويات. والمُتمسكون بقيم ومعايير الإسلام من الجيل الذي فاق عمره الخمسين عاما اليوم هم من الدّفعة الجامعية الأولى التي اكتسبت ثراءً روحيا في من خلال محبّة عزيز أفندي وعلمه الواسع.

ذات مرّة استأذنه أحد محبّيه لإحضار رجل مدمن خمرٍ إليه على أمل الشفاء، فأجابه:

"تستطيع أن تحضر أي نوع من أنواع الناس إلى هنا، على أن لا يكون متكبّرا. لأن الإنسان المتكبّر هو انسانٌ مُباعٌ للشيطان".

كما أنّ كرم عزيز أفندي المادي أيضا كان في القمّة. لأنه من الذين يظهر كرمهم في وقت الفاقة. فبالرغم من أنه ينحدر من عائلة ثريّة إلا أنه وهب أغلب ما أبقاه والدُه لإخوته الأرامل وأنفق هو من راتب الإمامة فقط على عائلته وأطفاله الأربعة. وقد كان حينها إماما في مسجد زيرك وراتبه تسعة عشر ليرة. ولإعالة أطفاله اشترى ماعزا ليُطعمهم من حليبها. فتكاثرت الماعز، وكان هو يخرج كلّ يوم إلى سوق الخضار ليجمع فواضل الخضار الباقية بعد تفرّق السوق، فيملأها في كيس ليحملها إلى البيت ويُطعمها لماعزه.

لم يكن يعطي قيمة للدنيا ولمتاعها، ولم يكن يترك ما يفضُل في يده أو في بيته إلى الصباح. وقد وقع أحيانا أن أرسل راتبه من دون أن تلمسه يداه إلى أحد المحتاجين من إخوانه.

في أحد مجالس الوعظ أيام الجُمع تحدث عن موضوع التوكل فقال:

"لو كنتم متوكلين فعلا لرزقكم الله تعالى كما يرزق الطير".

وذكرلأحد مقربيه حادثة وقعت له فقال:

"كنّا أحيانا نستدين من البقال، فقلت ذات يوم: 'إن كنت ستُعطِ فأعطِ يا ربي'، حيث لم يكن هناك شيء في البيت. فتكلمت زوجتي من أعلى البيت قائلة: 'يا سيّد، أأنت من نسيت الخمسين ليرةً في جيب الجُبّة؟'، فقلتُ: 'لا، ولكن أخرجيها لننفقها'. وقد كانت الخمسين ليرة مبلغا كبيرا في تلك الأيام لأنها كانت تعادل راتبي.

وهذا مثال آخر على توكّل الشيخ يذكره أحد محبيه، حيث يقول:

"كنا جلوسا تحت شجرة التين في الحديقة. وبينما نحن كذلك إذ جاءت ابنته الصغيرة مريم البالغة من العمر سبع سنين وهي تحمل سلّة بصعوبةٍ. فسألها الشيخ: "أرأيتِ من الذي جاء بها؟" فقالت : "لا يا أبي"، فقال لها: "اركضي وانظري من هو". فذهبت وهي تركض، ثم قالت: 'لم أره، لقد جاء إلى الباب وطلب مني أخذ السلة ثم ذهب واختفى'. فنظرتُ إلى السلة فإذا فيها طعاما. حينها قال لي الشيخ: 'لم يكن في البيت الآن لقمة واحدة يأكلها أولادي وعائلتي'. هكذا كان تسليمه".

تزوج الشيخ عبد العزيز أفندي في سن التاسعة والثلاثين ورُزق بأربعة أطفالٍ بنتين وولدين.

قالت عنه زوجته الوفية السيدة شازيمت: "لم أره أبدا ينام الليل بطوله طيلة حياتنا الزوجية الممتدة على ثمان عشرة سنة. لقد كان دائما منشغلا بالعبادة".

وكان يأخذ قيلولة قبل الظهر إذا وجد لها وقتا، وبالرغم من ذلك لم يكن يحصُل منه تثاؤب أو نعاس.

كان يمتاز بجميع مميزات الأخلاق الحسنة، ولم يبتعد أبدا رحمه الله عن السنة السنيّة.

عندما يستغرق في التفكير كان يمسك بلحيته بيده اليمنى وينظر إلى طرفها، وقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك.

كانت مائدة عزيز أفندي تحوي الضيف دائما. وأثناء الطعام يكثر الملاطفة ويُطعم بملعقته من يتصرف بخجلٍ من الضيوف.

ذات يوم سأله أحدهم قائلا: "يا سيدي، هل أن من آداب هذه التكية أن يُسأل السؤال باللسان أم من القلب؟"، فأجابه: "كلاهُما ممكنان ولكننا نفضل طريق القلب".

كان عبد العزيز أفندي صاحب تصرف قويّ في المريدين والمحبين. لذلك تمكن من جمع الكثير من الناس حوله على اختلاف مراتبهم وتمكن من المحافظة عليهم.

إنّ في كلّ إنسانٍ تجلٍّ لصفات الله. والذين يعرفون عزيز أفندي يقولون بأن صفة الجلال أكثر الصفات تجلٍّ فيه. لكن تحت هذا الجلال هناك تبسّم جماليّ خفيّ. لأنّه رجلٌ متسامح جدّا ومتبسّم وحليم ومتواضع.

على إثر أول حجّ للشيخ عبد العزيز بكينة في أغسطس سنة 1952 أصيب بالمرض، وارتحل إلى دار البقاء في الثاني من نوفمبر سنة 1952 عند الظهر وعمره حينها 57 عاما. ويقع قبره في مقبرة صاكز آغاجي بإدرنة بجوار ققبر رفيق دراسته الشيخ حسيب أفندي.

إن صداقة المرحوم جلال الدين أوكتن المعروف بالشيخ جلال المتينة مع محمد زاهد كوتكو رحمه الله وصحبته الصادقة معه كانت قد بدأت بسبب الشيخ عبد العزيز أفندي.

فعبد العزيز أفندي ومحمد زاهد أفندي كانا يحبان بعضهما وكأنهما توأمان من نفس العائلة. وقد تلقّيا تعليمهما الديني سويّا، وقاما معًا بالأعمال التي يقتضيها طريق الوصول إلى غاياتهما الشخصية؛ فقد دخلا الخلوة معا ونالا فيوضات الأمة من مصادر صافية وخاصّة مأخوذة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الشيخ محمد زاهد كوتكو في كتابه تربية النفس:

"كنا في ذلك الوقت نُكثر من زيارة يوشع عليه السلام في بيكوز. وكان كتاب مناقب الشيخ القدوسي لا يفارق الحاج عزيز أفندي، حتى إذا تحرّك المركب دخلنا إلى المقصورة وقرأنا منه باستمتاع. فكلّما قرأنا أكثر كلما ازداد استمتاعنا..."

من خلال تصرفات الشيخ يتجلّى كمال شخصيته الإنسانية. وبما أنه كان شخصا محافظا على عزّته ووقار شخصيته فقد كان يراعي الآداب في جلوسه وقيامه وحديثه واستماعه لغيره وفي كل أحواله، فصار مثالا لمن حوله.

كان الشيخ عبد العزيز أفندي مباركا عزّ نظيرهُ في ذكائه وخطابته وكرمه ومحبته لطلبته وتضحيته.

كتب المرحوم نور الدين طوبجو أحد الملازمين للشيخ عبد العزيز بكّينة نصّا مليئا بالمشاعر عند وفاة مرشده، وفي ما يلي الفقرة الأولى منه:

"لقد خسرتُ تلك القيمة الكبيرة التي كانت تسير أمام أرواحنا. فأصابني ألمٌ عريض لدرجة أن الزمن والقدر لا يقدران على احتضانه بأيديهما. وكأن عصمة ملكٍ وأمرًا إلهيّا قد اجتمعا في نظرته الأخيرة التي أصبحت الآن غير واضحة المعالم في ذهني. لم أرَى في حياتي توحّدا كهذا بين الحجاب والذكرى في نظرة واحدة.

لقد بقيتُ مقطوعا بعد أن أُغلِقت عيناه الزرقاوان اللتان كانتا تذرفان بسهولة وباستمرار فوق لحيته التي تشبه لحية النبي صلى الله عليه وسلم. وكأنني رُميتُ من عالم العشق والحقيقة لأدخل عالم الظِّلال والمُعدمين والمجرمين". 

مقالة “KAZANLI ABDÜLAZİZ BEKKİNE EFENDİ (RH.A)”