الزاوية الكمشخانوية / الزاوية الكمشخانوية

عبد الخالق الغجدواني قدّس سرّه

لقد نذر الشيخ الغجدواني أحد أكبر متصوّفي القرن الثاني عشر قِسما كبيرا من عُمُره لوضع مبادئ مازالت متّبعةً إلى الآن لطريقه الذي أنارَهُ بنفسه، وقد تشكّلت في عصره مبادئ قويّة مازال تأثيرها متواصلا إلى الآن.

القراءة بلغة أخرى

مولده وأسرته

الشيخ عبد الخالق الغجدواني عالم ومتصوّف كبير عاش في بداية القرن الثالث عشر ووُلِد في قرية غجدوان التي تبعد مسافة 30 كيلومترا عن بُخارى. لم تصل إلينا سوى معلومات قليلة جدّا عن طفولته. وقد ذكر بنفسه في الكتاب المُسمّى رسالة صاحبية أنّ والده هو عبد الجميل إمام الملاطي العالم الكبير الذي يعود نسبه إلى الإمام مالك أحد أئمّة المذاهب الكبار[1]. ومن الواضح أنّ والد الشيخ الغجدواني كان رجُلا ذا شأنٍ ومؤثّرا في بيئته التي عاش فيها. حيث تدخّل عندما أُبعِدَ أمير ملاطية من المدينة على يد أعدائه، فأعاده إليها وجعله يجلس على كرسي حكمها من جديد[2]. بعد ذلك بسنوات غادر عبد الجميل مدينة ملاطية التي يظهر أنّ له فيها تأثيرا كبيرا واستقرّ في قرية غجدوان القريبة من بُخارى حيث وُلِد الشيخ الغجدواني[3].

تعليمه

كحال كثير من العلماء، كان والد الشيخ الغجدواني هو أوّل شيخ له، ثمّ انتقل إلى بُخارى إحدى مراكز العلم الكبرى في ذلك العصر من أجل تنمية علمه. وفيها درس بجانب الإمام صدر الدين أحد أشهر علماء المدينة.

في هذه المدينة وفي صفحة مبكّرة من تعليمه كان الشيخ العجدواني يحاول مع زملائه تفسير آيةٍ عندما جعلهُ الأمر الذي فيها يشعر بالمسؤولية طيلة حياته، وبذَلَ جهدا عظيما لإدراك طريقة الامتثال لذلك الأمر. الآية هي الآية الخامسة والخمسون من سورة الأعراف التي تقول "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". فقد كان الشيخ الغجدواني يرى ضرورة فهم المقصود من وراء عبارة "خفية" المذكورة. وقد تحدّث عن الحيرة التي عاشها بسبب ذلك الأمر فقال: "لو أنّ الذّاكِر قام بالذِّكر بصوتٍ عالٍ أو حرّك أعضاءه خلال ذكره فإن الآخرين سيتنبهون لذلك. ومن جهة أخرى إذا ذكر بقلبه فقط فإن الشيطان سيعرف بذلك. لأن الشيطان -حسب ما رُوِي في الحديث- يجري من ابن آدم مجرى الدم" (البخاري، "الأحكام"، 21).

انطلاقا من هذا الأمر جعل الشيخ الغجدواني همّه في معرفة طريقة إخفاء الدعاء الذي أمرت به الآية، وانشغل بذلك زمنا طويلا، وعندما سأل شيخه أخبره بأنه سيعلم ذلك عندما يحين الوقت المناسب. بعد ذلك ذهب إلى الخواجه خضر الذي كان مهتمّا به من قبل، فطلب منه أن يدخل إلى بركة ماءٍ ويردّد كلمة الشهادة وهو تحت الماء. وبذلك تشكّلت منهجية الذكر الخفي التي هي أصل ذِكر الخواجكان. وأُحدِثَ وجوب الذكر بصمتٍ وبأعدادٍ محدّدة[4]. وهكذا ظهرَ مبدأ "الوقوف العددي" في الذِّكر الذي تبناه الخواجكان والنقشبنديون من خلفه[5].

قدِمَ الشيخ الغجدواني إلى بُخارى بعد أن تحصّل على تعليم مكثّف على يدي الخواجه خضر الذي كفله إلى حين بلوغه سنّ الخامسة والعشرين. وهناك أخذ مكانه بين طلبة يوسف الهمداني (ت 535/1140) الذي يعتبر أحد أكبر علماء عصره وشيخ الشيخ أحمد يسوي الذي يُعرف بأنه أول متصوّف تركي[6]. وبينما كان الشيخ الهمداني يتبع طريقة الذكر الجهري، كان الشيخ الغجدواني يميل إلى الذكر الخفي الذي سبق الحديث عنه، فأذن له الشيخ الهمداني بذلك. وبعد التقائهما بدأ يوسف الهمداني بالاهتمام بتربية وتعليم الشيخ الغجدواني فانسحب الخواجة خضر من حياته. والخواجة خضر الذي هو أوّل شيخ للغجدواني يُذكر على أنّه شيخه الذي أدخله طريق التصوف وعلّمه الذِّكر، في حين يُذكَر شيخه الثاني الهمداني على أنّه شيخ مجالسة له فقط[7]. لكن بما أنّه ترك فيه تأثيرا أكبر وحدّد له الطريق الذي سيسلكه لاحقا فإنّ يوسف الهمداني يُذكرُ في الترتيب على أنه شيخ الغجدواني. عاد الشيخ الغجدواني لاحقا إلى موطنه بعد أن بقي بجانب الهمداني إلى حين مغادرته لبُخارى (أو سمرقند). وهناك انزوى على نفسه عندما لم يجد من يمكن أن يصلُح هدفا لمجالسه، وغاص في عالم المجاهدة وسعى إلى إثراء وتعميق عالمه الداخلي[8].

نشاطات الشيخ الغجدواني العلمية

بفضل الزهد الذي اكتسبه الغجدواني في انزوائه، أصبح متصوّفا معروفا على نطاق واسع. وأصبح عالما مشهورا جدّا في عصره لدرجة أنّ زاوية تأسّست في الشام باسمه[9]. وأصبح الطلبة يفدون من هناك إلى غجدوان لرؤية شيخهم. ومن الملاحظ أنّ تلك الزيارات قد بلغت أعدادا مثيرة للاهتمام.

كان للهمداني علماء كبار ومتصوفون ربّاهُم وأعدّهم لمواصلة الأنشطة العلمية التي كان يقوم بها بدلا عنه. ومن هؤلاء الشيخ أحمد يسوي المعروف باسم بيري تركستان، الذي نذرَ حياته لتبليغ الإسلام لفئات أكبر من الناس خلال القرن الحادي عشر الذي دخل فيه الأتراك للإسلام بشكل واسع. وبما أنّ الأتراك كانوا بعيدين عن ثقافة الكتابة لأنهم يعيشون حياة التّرحال فقد بذل الشيخ أحمد يسوي جهودا بليغة لكي يتعرّفوا على الإسلام بشكلٍ بسيط وعميقٍ استنادا إلى مصادر صحيحة. وعندما غادر بُخارى كان الغجدواني قد أنهى مرحلة انزوائه.

بمجرّد أن خرج الغجدواني من انزوائه ترأَّسَ الدراويشَ الموجودين في بُخارى وما حولها. لقد كان صاحب شخصيّة كثيرة الحركة، حيث كان يُطبّق بكثرةٍ مبدأ عدم الجلوس في التكية والاختلاط بالناس باستمرار والتجوال بكثرة في المدينة ويوصي به طلبته كلّما سنحت الفرصة، وهو المبدأ الذي يمثل إحدى الميزات الأساسية للنقشبندية. بل يمكن القول بأنّ هذا المبدأ -الذي يمثّل قاسما مشتركا بين جميع العلماء السالكين لهذا الطريق من بعده تقريبا- قد تشكّل في زمانه هو. ومن المعلوم أيضا أنّ الخواجه أولياء الكبير أحد أقرب طلبة الغجدواني إليه، كان يوصي بتحيّن الفرصة لمغادرة التكيّة والاختلاط دائما بالناس وخدمتهم[10].

وفاته

عندما تقدّم العمر بالغجدواني كان يمارس نشاطاته العلمية والصوفية في تكيّته، إلى أن انقضى عمره وهو على تلك الحال. ولا يُعلمُ تاريخ وفاته على وجه اليقين لأن المصادر التي تحدّثت عنه كانت منقسمة بين تاريخين مختلفين.

نقل غلام سرور اللاهوري وفاة الشيخ الغجدوني في تاريخ مبكّر جدّا هو 575 (1179) من دون استنادٍ منه إلى أي مصدرٍ قديم[11]. أما كتاب مقامات عبدالخالق غجدواني وخواجه عارف ريوكري المنسوب إلى مجهولٍ فيذكُر أنّ الشيخ الغجدواني توفي قُبيل وفاة نجم الدين كبرى المُتوفى في سنة 618 (1221)[12]. وقد استند ناشرُ كتاب رسالة صاحبية سعيد نفيسي إلى هذا القيد وذكر أن وفاة الغجدواني كانت سنة 617 (1220)[13]. وخلاصة الأمر أن تاريخ وفاة الشيخ الغجدواني ليس قطعيّا، ولكن يُفهمُ أنّه تُوُفّي في نهاية الربع الأول من القرن الثالث عشر وقبل بداية الغزو المغولي للعالم الإسلامي.

خلفاؤه وفكره الصوفي

لقد ترك الشيخ الغجدواني أربعة خلفاء لمواصلة النشاطات الإرشادية التي كان يقوم بها. وهؤلاء هم الخواجه أحمد صدّيق والخواجه أولياء كبير والخواجة عارف الريوكري والخواجه عباس البخاري.

وقد تواصل طريق الخواجكان بعد الشيخ الغجدواني بواسطة الشيخ خواجه عارف الريوكري. ويأتي على رأس إجراءات الشيخ الغجدواني وضعُهُ للمبادئ الثمانية المسمّاة "بالكلمات القدسية". هذه المبادئ التي اتّبعها من بعده الخواجكان والنقشبنديون والتزموها بدقّة كبيرة هي كالتالي:

1- هُوش دَردَم (البعد عن الغفلة في كلّ نَفَسٍ والقيام بكلّ عملٍ باستحضار الحساب).

2- سَفَرْ دَرْ وَطَنْ (التخلي عن الصفات البشرية والتلوّن بالصفات الإلهية، وعيش الإنسان مع استحضار أنّه لله وأنّه إليه راجع)

3- نَظَرْ بَرْ قَدَمْ (نظرُ الإنسان لموضع قدميه عند المسير وبذلك يحمي قلبه وعقله من جميع الأشياء غير الضرورية التي قد تشغلهما)

4- خلوَت دَرْ أَنْجُمَنْ (حضور الإنسان مع الخلق في الظاهر بينما هو في الأساس مع الله، أي كما يُقال بكثرة في الأناضول: أن يكون مع الله وهو بين الناس).

5- يَادْ كَرْدْ (القيام بالذِّكر بالقلب مع الذِّكر باللسان).

6- بَازْ كَشْتْ (أن تُقال جملة "إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي" عند الذكر).

7- نِكَاهْ دَاشْتْ (دفع الأفكار التي تشغل الذهن).

8- يَادْ دَاْشْت (مواصلة اليقظة من أجل الذِّكر).

هذه المبادئ الثمانية المذكورة في كتاب "الكلمات القدسية" سيُظاف إليها في العصور اللاحقة مبادئ ثلاثة أخرى هي الوقوف الزماني والوقوف العددي والوقوف القلبي لتُشكِّل مجتمعةً المبادئ الأساسية للنقشبندية.

يُعتبر العالم والمتصوف الكبير الشيخ الغجدواني هو من وضع المبادئ الأساسية للطريق الذي يُمثّل هو نفسُه مُنوِّرهُ.

مؤلفاته

لقد ألّف الشيخ الغجدواني إلى جانب نشاطاته الإرشادية مؤلّفاتٍ علمية يُعرف منها كتابان اثنان. فأشهرهما هو رسالة صاحبية. نُشِر هذا الكتاب -الذي يذكر مناقب يوسف الهمداني ويعطي نبذة عن حياته- من قبل وزارة الثقافة الإيرانية بتنسيقِ سعيد نسفي. كما نُشِر مختصرٌ له في إيران أيضا من تأليف المؤرخ الإيراني المشهور اراج أفشار.

أمّا كتابه الآخر الذي لم يُطبع بعد فهو بعنوان وصايا. وله نسخةٌ خطّيّة في مكتبة المخطوطات بالسليمانية[14]. هذا الكتاب الصغير هو عبارة عن رسالة في الآداب، ومن المعلوم أنّه ألّفه من أجل تلميذه الخواجه أولياء كبير. ذُكِرت في هذه الرسالة وصايا من قبيل تجنّب الجاهلين من المتصوّفة وعدم مفارقة القرآن والسنة والابتعاد عن الحُكّام وعدم الجلوس في التكية وعدم الانشغال كثيرا بالسماع. وبعد سنواتٍ من تأليفه قدِم العالم فضل الله بن روزبخان إلى بُخارى وأخذ على عاتقه تأليف شرحٍ لكتاب العالم الكبير الذي يحمل اسم مدينة غجدوان وذلك بعد نجاة المدينة بأعجوبة من الغزو المغولي. هذا الشرح على الوصايا له نسخة خطية أيضا في مكتبة السليمانية للمخطوطات[15].

لقد نذر الشيخ الغجدواني أحد أكبر متصوّفي القرن الثاني عشر قِسما كبيرا من عُمُره لوضع مبادئ مازالت متّبعةً إلى الآن لطريقه الذي أنارَهُ بنفسه، وقد تشكّلت في عصره مبادئ قويّة مازال تأثيرها متواصلا إلى الآن.

 وبهذا الاعتبار فإن للشيخ الغجدواني مكانة خاصّة ومهمّة في السلسلة.


[1] عبد الخالق الغجدواني، رسالة صاحبية، نشر: سعيد نفيسي، فرهنكي إيران زمين، طهران 1332/1953، ص 95-96.

[2] Hamid Algar, “Abdülhâlik Guvdevânî”, Nakşibedîlik, İstanbul 2012, s. 491.

[3] Hamid Algar, “Abdülhâlik Guvdevânî”, Nakşibedîlik, s. 491

[4] Safî, Reşehât nşr. Ali Asgâr-ı Muînîân, Tahran 1977, s. 34.

[5] Safî, Reşehât nşr. Ali Asgâr-ı Muînîân, Tahran 1977, s. 30.

[6] بعض المصادر التاريخية تنقل أن اللقاء بين الغجدواني ويوسف الهمداني لم يكن في بخارى وإنما في سمرقند. لمعلومات أكثر عن الموضوع، انظر: Silselenâme-î Hâcegân-ı Nakşbend.

[7] Lâmiî, Nefehât s. 411

[8] Fazllulah b. Rüzbihân vr. 86a. 

[9] الجامي، نفحات، نشر: محمود عبيدي، طهران 1370/1991، ص. 384.

[10] Muînü’l-fukarâ, Tarih-î Mollazâde, nşr. Ahmed Gülçin-î Meânî, Tahran 1339/1960, s. 46

[11] غلام سرور اللاهوري، خزينة الأصفياء، لكنو 1868، ج 1، ص 530.

[12] Hamid Algar, “Abdülhâlik Gucduvânî”, TDVİA, C.14, 1996, s.171.

[13] Hamid Algar, “Abdülhâlik Gucduvânî”, TDVİA, C.14, 1996, s.171.

[14] مكتبة السليمانية، أسعد أفندي، رقم 3702.

[15] مكتبة السليمانية، يحيى توفيق، رقم 1500، و. 83 أ-102ب.

مقالة “ABDÜLHÂLİK GUCDUVÂNÎ K.S.”