وهكذا أنزل الله تعالى القرآن الكريمَ جزءاً جزءاً، أو مُنجّمًا كما في العربيّة؛ أي: على دفعات، أو على أقسام موزَّعة على امتداد ثلاث وعشرين سنة، بأشكال الوحي المتعددة، بواسطة جبريل عليه السلام على نبي آخر الزمان سيدنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
يعني ذلك أن علينا نحن وإياكم أن نتعلّم القرآن الكريم، وأن نُعلّم قراءته لجميع أولادنا، ومَن هم تحت إمرتنا، كما أن علينا أن نتعلّم معانيه، وأحكامه، وتفسيره حتى نعمل بمُوجبه. فلنتمسّك بكلّ ما أمر به الله تعالى، ولنتجنّب جميع ما نهى عنه؛ لكي ننال بذلك رضاه، وندخل جنّته، ونَصِل إلى رضوانه الأكبر... بذلك يكثُر عدد أهل القرآن إن شاء الله، ويقوَى دينُنا وينتشر، فيحكم دين اللّه الأرض، وإذا حكم دين الله فإن العلم والعرفان والأخلاق والرحمة والإنسانية تكون حاكمة، وبالتالي يصل الإنسان، وعالم الإسلام، بل وجميع الخلائق، وجميع الناس إلى السعادة.
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى رب العالمين، الذي خلق السموات والأرض، وأوجَدَ الإنس والجنّ، لذلك فإن الموضوع من هذه الجهة مهمٌّ وجدّيٌّ جدّاً.
من لطف الله عز وجل وكرمه ورحمته أنه منذ خلق ابنَ آدم لم يتركه بلا مرشد ودليل، فأول إنسان هو آدم عليه والسلام، وقد كان في نفس الوقت أوّل نبيّ.
على مرّ العصور وعلى امتداد الوجود الإنساني أرسل الله تعالى أنبياء من عباده المختارين الرَّفيعين المباركين النّيِّرين؛ لهداية الناس إلى طريق الحقّ، وليكونوا عبادًا جيِّدين؛ لتكون الروابط الإنسانية بينهم قويّة، ولِتَعمُر دنياهم وآخرتهم.
أوّل هؤلاء الأنبياء هو أبونا آدم عليه السلام، وسيدنا إبراهيم هو من بين أولئك الأنبياء المباركين المعروفين، وهو من المباركين الذين حدّثنا القرآن الكريم عنهم.
كذلك سيدنا نوح عليه السلام هو أحد الأنبياء الذين نحبّهم، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام هما من الأنبياء الذين نحبهم، وعيسى عليه السلام من الأنبياء الذين نحبهم.
ما أجمل الإسلامَ الذي يحتضن جميع الإنسانية! حيث يُبيّن أن المباركين الذين يؤمن بهم أو بأغلبهم جميع البشر جيِّدون ومُقدّسون ومُباركون، ونحن نحبّهم جميعاً، ما أجمل ذلك! نحب موسى عليه السلام، ونحب عيسى عليه السلام، آمنّا بالوحي الذي أُنزل على سيدنا موسى عليه السلام، وبالوحي الذي أُنزل على سيدنا عيسى عليه السلام، ما أجمل ذلك!
خاتم هؤلاء الأنبياء جميعاً هو نبيّ آخر الزمان سيّدنا وقائدنا وكبيرنا محمد صلى الله عليه وسلم.
أمّا أتباع الأديان الأخرى فهم إلى جانب تصارُعهم الدّاخلي فيما بينهم ارتكبوا أخطاء عظيمة بعدم إيمانهم بنبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى الذي خلق آدم، والذي أرسل كثيراً من الأنبياء على مرّ العصور، أرسل أيضاً آخر الأنبياء، نبيَّ آخِرِ الزمان عظيم الشأن صلى الله عليه وسلم، حيث نزل عليه الملائكة الذين نزلوا على الأنبياء من قبله، وبلّغوه أوامر الله عز وجل ونواهيه عن طريق الوحي.
وهكذا أنزل الله تعالى القرآن الكريمَ جزءاً جزءاً، أو مُنجّمًا كما في العربيّة؛ أي: على دفعات، أو على أقسام موزَّعة على امتداد ثلاث وعشرين سنة، بأشكال الوحي المتعددة، بواسطة جبريل عليه السلام على نبي آخر الزمان سيدنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
واذا اعتمدنا التقويم الميلادي سنجد بأن نزول القرآن الكريم استمر منذ سنة (610) إلى حين وفاة نبيّنا صلى الله عليه وسلم سنة (632).
وبذلك كان من السّهل تحمّل شدّة الوحي، وتقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم، وحسن فهم مواضيع القرآن وأحكامه، وحفظ آياته وتطبيقها في حياة الناس، إن تنزيله على ثلاث وعشرين سنة فيه حكمة عظيمة.
يجب أن نُذكّر هنا بأن ما بين (610) و(632) هناك (22) سنة، ولكن بين السّنة الميلادية والسّنة الهجرية فرق مأتاهُ أنّ في إحداها (365) يوماً، وفي الأخرى (354) يوماً، فمع مرور السنوات، ومع تراكم فرق الأحد عشر يوماً على مر السنين زادت السنة الهجرية سنة على الميلادية.
نزل القرآن على امتداد ثلاث وعشرين سنة، حيث بدأ نزول الوحي في سنّ الأربعين، واستمر نزوله على نبينا عليه الصلاة والسلام إلى حين وفاته في سنّ الثالثة والسّتين.
أنتم تعرفون أن عملية الوحي عمليّة شديدةٌ تُرهقُ حواسّ الإنسان، ويمكن للآخرين أن يشعروا بها، ويرَوْا تأثيرها، فعندما ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يُسمَعُ صوتٌ يشبهُ دويَّ النحل، من المهم معرفة ذلك حتى يفهم الناس في زماننا ذلك بشكل أفضل.
يطرأ على النبي صلى الله عليه وسلّم حالٌ مختلفٌ عند نزول الوحي، فيتعرّق ويُرَى جبينُه وهو يتفصّد عرقاً، وإذا جاءه الوحيُ وهو فوق ناقته مثلاً لا تحتمل الناقة ذلك الوحي، وما تلبَثُ أن تبرُكَ، ذلك الحيوان الصّحراوي شديدُ التحمّل يبرُك إلى الأرض.
هناك حادثة أخرى أثارت انتباهي، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرّة بين أصحابه وهم متزاحمون في المجلس جاءه الوحي، وكانت فخذه على فخذ أحد الصحابة، فثقُلت على الصحابيّ فخذُه، وكأنّها ستُرَضُّ أوتتفتّتُ أوتتمزّق.
يعني أن ما يُسمّى بالوحي هو إرسال الله تعالى للأحكام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام بشكل يؤثّرُ في مُحيط نزوله، ويراه من حضرهُ.
وأنتم تعرفون بأن القرآن الكريم مؤلَّف من سُور، وبأن السّور مؤلَّفة من آيات، تُسمّى وحدات القرآن الكريم المُستقلّة بالآيات، وهو اسم شائع، وأنتم سمعتم بآيات القرآن الكريم يقيناً.
فتسمية هذه الأجزاء الصغيرة ومجموعات الأحرف والكلمات بالآية أطلقها الله تعالى بنفسه على آيات القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل في مطلع سورة آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾([1])، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾([2])، هذه الآيات المنزلات، قسم منها آيات محكمة، ومنها قسم هي آيات مرمُوزةٌ بها أسرارٌ لا يستطيع الناس فهمها.
مُحكمة أي آيات قويّة، معناها مفهوم واضح ويمكن استخراج الأحكام منها.
نفهم من هذا أن الله تعالى هو الذي أطلق بنفسه اسم الآية على هذه الوحدات الصغيرة المُنزّلة من القرآن الكريم. لأنه قال هُنا: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾.
إنّ آيات القرآن الكريم هي جُملٌ مليئة بالعِبر والحِكم والمعاني.
يُفهم من قولنا: "جملة" أنها الجملة المعهودة في قواعد اللغة، غير أن بعض الحروف المتشابهة المرموزة، وغير المفهومة يمكن أن تكون آية أيضاً.
مثلاً يمكن أن أذكر لكم من بين هذه الآيات ما سيتبادر إلى أذهانكم منها فوراً: ﴿ألم﴾، ما الآيةُ الأولى في الصفحة الأولى المُزيّنة من المصحف التي فيها سورتا الفاتحة والبقرة؟ ما الآية الأولى من سورة البقرة؟
﴿ألم﴾ ثلاثة حروف، ثم مثلاً: ﴿حم﴾، ﴿طه﴾، ﴿يس﴾، ﴿كهيعص﴾، ﴿عسق﴾، ﴿طسم﴾.
هذه كلها مجموعة حروف، حرفان أو أكثر، ما ماهيتها؟ هي ذات أسرار، ذُكرت حولها بعض الأخبار والروايات، ولكنها في النهاية حروف وآيات.
يعني أن الآية يمكن أن تتكون من أصغر الحروف المرموزة، تُسمّى هذه الحروف بالحروف المقطعة؛ أي: إن الحروف المقطعة أيضاً ـ ليست كلمة، أو جملة ـ يمكن أن تكون آية.
يعرف أسرار هذه الآيات ورموزها نبيُّنا عظيم الشان صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يعرفها كلّ أحد، وبالرغم من أن بعض الصحابة بيَّنوا بعض معاني الآيات المتشابهات إلا أنهم حافظوا على أغلب أسرارها.
أحياناً تكون الآيات الكريمة كلمة واحدة، مثلاً: ﴿الرحمن﴾ هذه آية، ﴿علّم القرآن﴾ الآية الثانية من سورة الرحمن.
مثلاً: ﴿القارعة﴾ كلمة واحدة.
مثلاً: ﴿والضحى﴾ آية أولى، ﴿والليل إذا سجى﴾ آية ثانية.
مثلاً: ﴿الحاقة﴾ كلمة واحدة.
مثلاً: ﴿ثم نظر﴾ هنا كلمتان.
مثلاً: ﴿مدهامتان﴾ كلمة واحدة ممدودة في سورة الرحمن.
مثلاً في الفاتحة: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ آية، ﴿الرحمن الرحيم﴾ آية أخرى.
يعني أنه لا وجود لقاعدة مفادها أن الآية يجب أن تكون جملة، فأحياناً تكون الآية كلمة واحدة، بل يمكن أن تكون مجموعة من الحروف المرموزة، وأحياناً تكون متألفة من مجموعة كلمات، أو من جملة طويلة متكونة من مجموعة من الجمل.
مثلاً: آية الكرسي آية واحدة، تعرفون أنها تطول جداً عند قراءتها.
أكبر آية في القرآن الكريم هي آية المدايَنة التي تشغل صفحة كاملة في آخر سورة البقرة قبل آية ﴿آمن الرسول﴾ بصفحة، هي آية طويلة تُبيّن أحكام الدَّيْن، وتُوضّح طريقة معرفة تلك الأحكام للدّائنين والمَدينين، يجب إحضار شاهدين، إذا كان أحد الشهود رجُلًا فيجب أن تكون معه امرأتان تشهدان، يُمنعُ تهديد الشهود، ويُمنع الضغط والتأثير عليهم، توضيحات طويلة ترِدُ في آية واحدة.
توجد بين الآيات فواصلٌ تفصلها عن بعضها، الفاصلة هي ما يفرّق بين شيئين، وعند طبع القرآن الكريم ونسخِه تُوضعُ مع الفواصل أرقام الآية أحياناً، وهذا أمرٌ جيّد يفيد في معرفة ترتيب الآية.
عدُّ الآي... بالطبع إذا تعلق الأمر بموضوع مهمّ وبمواضيع كبيرة كتعداد آيات كتاب ضخم كالقرآن فإن مواقف العلماء قد تشهد اختلافات بسيطة، يبلغ عدد الآيات في نسخ وطبعات القرآن الكريم الذي نقرؤه اليوم (6236) آية، وهذه النُّسخ هي نفسها التي استعملها علماء أهل السُّنة على امتداد تاريخنا الدّيني من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط إلى القارة الهندية إلى الأراضي العثمانية إلى تركيا التي نعيش فيها اليوم.
أحياناً أسأل بعض الأصدقاء: كم عدد آيات القرآن الكريم؟ فيُجيبون: (6666)، يصُفُّونَ أربعة ستّاتٍ، وهذا غير صحيح، فهو لا يعكس الحقيقة، عدد آيات القرآن الكريم (6236) آية.
تعرفون أن الآيات النّازلة وقع تصنيفها من عدة وجوه حتى يسهُلَ تعريفُها، فالآيات تُقسّم إلى مكّي ومدنيّ من خلال تقسيمٍ اعتُمِد منذ زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهناك أفهام مختلفة للمكي والمدني.
وأقوى الآراء المختلفة هو الرأي القائل بأن الآيات التي نزلت قبل الهجرة تُسمّى آيات مكيّة؛ أي: عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكّة قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة، أما الآيات التي نزلت بعد الهجرة فتُسمّى بالمدنيّة، ولكن لا يُشترط أن تكون هذه الآيات نزلت وُجوباً في المدينة المنورة، فالآيات التي نزلت بعد الهجرة وإن لم تنزل بالمدينة سُمِّيت آيات مدنيّة، يعني أنها الآيات التي نزلت في العهد المدنيّ.
تمتاز الآيات المكيّة بأنها آيات مليئة بالحماس، وتتحدّث أكثر عن الإيمان من خلال جُملٍ قصيرة.
أمّا آيات عهد المدينة المنوّرة فهي آيات طويلة، تُوضّح الأحكام البشريّة، والسياسية، والاجتماعية، والتجارية، ونعرف بأنّها آيات أمر وحُكم.
هناك مسألة مهمّة أخرى، وهي أن هذه الآيات لم تُرتّب في القرآن الكريم على اعتبار ترتيب نزولها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان الترتيب توقيفيّاً من خلال الأوامر، والإشارات الإلهية؛ يعني أنّ ترتيبه ليس كيفيًّا ولا تاريخيّاً، بل توقيفيّ، هذا يعني أنّه عند نزول الوحي بمجموعة من الآيات الكريمة يُحدّد للنبي صلى الله عليه وسلم أين يجب أن توضع آيات الوحي، بعد أيّ آية، وفي أي سورة يجب أن تُوضع، وبذلك أخذت الآيات مواضعها.
تعرفون أن الأقسام الأكبر من القرآن الكريم تُسمّى سُوَرًا، وأنّها تتألّف من آيات، السّورُ هو الجُدرانُ التي كانت تُبنَى قديماً حول المُدن لحمايتها، وكلمة "سورة" لها علاقة بذلك، إذاً فهي تعني السّور، أو الموقع العالي، أو أنّها بمعنى المنزلة الشريفة؛ أي: إنّنا نصف القرآن بالكريم والآية بالكريمة؛ لأن سُوَرَهُ شريفة، كريم يعني: أصيل ونبيل، والسّورة أخذت هذا الاسم لأنَّها شَرُفَت بكونها جزءاً مستقلّاً من القرآن.
إنّ العارفين باللغة العربية، والدارسين لتاريخها أكثر اطّلاعًا على هذه المسألة، كثير من المصطلحات أُخِذت من الحياة، من أشياء ملموسة، ثم صارت بعد ذلك أسماءً لمصطلحات معنويّة.
مثلاً نحن نقول: نتيجة، والنتيجة في الأصل اسم تُطلقه العرب على صغير الناقة، يُقال لولد الناقة: نتيجة، يُقال: "نتيجة" بمعنى مولود، ومن هناك استُخدمت بمعنى النتيجة التي نعرفها، نحن أيضاً نستخدم لفظ النتيجة في اللغة التركية، فنقول: نتيجة هذا الفعل...، وليس بمعنى ولد الناقة طبعاً، بل بمعنى ثمرة الفعل.
"الآية" تعني العلامة الكبيرة التي تُرى عِياناً، ويُقال آية أيضاً للمباني الكبيرة والعمارات ونحوها من المباني ذات العُلُوّ المُلفت، كما أن الأحداث الكُبرى التي تُبهِر الإنسانَ يُقال لها آية أيضاً.
وإذا تفكّرنا في تسمية أجزاء القرآن الكريم بالآيات من خلال إطلاق مُسمّى الآية على المباني الكبيرة، وإذا كان السُّورُ يُمثّل المدينة، فإن السُّوَر تكون بمثابة المُدُن، والآيات بمثابة المباني الشريفة التي فيها، وبالنظر إلى هذه المعاني تكون أجزاء القرآن الكريم الصغيرة قد سُمِّيت آيات، وأجزاؤه الكُبرى ومجموعات الآيات قد سُمِّيت سُوَرًا، فيُمكن أن يكون أصل التسمية قد اشتُقَّ من هذه المشابهة.
تتألّف أصغر سورة من ثلاث آيات: ﴿إنّا أعطيناك الكوثر﴾، سورة الكوثر وسورة العصر تتألفان من ثلاث آيات، وسورة الإخلاص أربع آيات.
أما أطول سورة فهي سورة البقرة التي تَلي الفاتحة مباشرة، والتي مبدؤها: ﴿ألم﴾، وعدد آياتها (286) آية، تمتد على خمسين صفحة، يعني أن السُّور أيضاً محتوياتها وأحجامها مختلفة، بعضها كبير، وبعضها صغير، والسُّور أيضاً تكون باعتبار الأوامر والإشارات الإلهية.
بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مواضع الآيات النازلة بشكل واضح وقاطع عندما كان يقول: "ضعوا هذه السورة في الموضع الفلاني، وهذه توضعُ هناك".
فمثلاً أول الآيات نزولاً هي آيات سورة ﴿اقرأ﴾ التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء حيث كان للنبي صلى الله عليه وسلم أوّل موعد مع الوحي هناك، وقد رأى جبريل عليه السلام في تلك المرحلة.
الآيات الأولى التي نزلت لم تكن سورة ﴿اقرأ﴾ بتمامها، بل أوّل خمس آيات منها فقط: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾([3]).
نزلت هذه الآيات، ولكنّ السورة لا تتألف منها فقط، بل تواصل إلى أسفل الصفحة، وفيها آية سجدة، بما أن بقية الآيات نزلت لاحقاً، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تُوضع بعد الآيات الأولى فقد رُتِّبت على تلك الكيفيّة، وهكذا تكون السّورة قد أُلِّفت من آيات نزلت في أزمان مختلفة.
هذه المسائل أهمّيتها بالغة جداً، فعند شرح القرآن الكريم بهذا الاعتبار يقع شرح حُزَمِ الآيات؛ أي: حزمة من ناحية المعنى، حيث تُشكّل الآيات وحدة مستقلّة، أما باقي السورة فيمكن أن يُتَطَرَّق فيه لمواضيع أخرى؛ أي: يمكن للموضوع أن يتغيَّر، يعني ذلك أنه ليس شرطاً أن يكون لكل سورة موضوع واحد.
عمَد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلى إطلاق تسميات على السُّوَر؛ حتى يفرِّقوا فيما بينها، وحتى يتمكنوا من تحديدها عند الحديث عنها، هذه الأسماء قد تكون واحدةً، وقد تتعدَّد، يمكن لسورة واحدة أن يكون لها أسماء متعدّدة.
مثلاً نقول: سورة البقرة، أو سورة الرحمن، هذه التسميات سببها الموضوعات المُهمّة التي احتوتها تلك السّور.
فسورة البقرة سُمّيت بهذا الاسم لأنه ذُكر فيها تردّد بني إسرائيل في ذبح البقرة التي أمرهم الله تعالى بذبحها كقُربان، أُمِروا بذبح بقرة كقُربان؛ لأن الأقوام الذين في بيئتهم كانوا يعبدون البقر، وجب ذبحها حتى يفهم الناس أنها خلق من خلق الله، وأنها خُلِقت لخدمة الإنسان، وأن عبادتها لا تَلِيق، ولكن بني إسرائيل حينها صَعُب عليهم ذبحها؛ لأن فيهم بقايا اعتقاداتهم القديمة...
أوجب الله تعالى عليهم ذبحها، وأمرهم موسى عليه السلام بذلك، لذلك سُمِّيت هذه السورة التي تحتوي على (286) آية بسورة البقرة؛ أي: إنها السورة التي ذُكرت فيها حادثة ذبح البقرة، في حين أن هذه السورة من القرآن الكريم التي امتدادها في خمسين صفحة، والتي امتدت على جزءَين ونصف، احتوت أيضاً على مواضيع شتَّى...
كل ذلك يعني أن أسماء سُوَرِ القرآن الكريم يمكن أن تكون متعلقة بمواضيعها كما يمكن أن تكون بسبب الكلمات الأولى منها.
فسورة تبارك بدأت بقوله تعالى: ﴿تبارك الذي بيده الملك﴾، ولهذه السورة تسمية أخرى هي سورة المُلك.
وسُمّيت سورة ﴿قُل هو الله أحد﴾ بسورة الإخلاص؛ لأنها بيّنت الإيمان بكامل صفائه، الإيمان الكامل الخالص المُخلص.
وسُمّيت السورة التي أوّلها قوله تعالى: ﴿إنا أعطيناك الكوثر﴾ باسم سورة الكوثر؛ لأنها تحدّثت عن الكوثر.
والسُّور الثلاث التي مطالعها: ﴿قل هو الله﴾، ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾، ﴿قل أعوذ برب الناس﴾ سُمِّيت بالمُعوّذات، وسُمّيت الأُخرَيان منها بالمُعوّذتين.
تُكتبُ تلك الأسماء في أُطُرٍ مستقلة عند بداية السّور من القرآن الكريم، تُكتبُ داخل أُطُر العناوين، وهذه الأسماء المكتوبة في تلك الأطر ليست من القرآن الكريم، يعني هي مكتوبة فقط لمعرفة ذلك القسم من القرآن الكريم، حيث يُكتب داخل الإطار اسم السورة، وعدد آياتها، ومكّية أم مدنيّة، تُكتب للتعريف فقط، وليس لأنها من الوحي.
مثلاً: يُكتب في أول سورة البقرة: "سورة البقرة مدنيّة"، هي سورة تتألّف من آيات تعود للعهد المدنيّ، "وهي ستّ وثمانون ومائتي آية".
طبعاً ليس شرطاً أن تُكتب هذه الأشياء في أول كلّ سورة، فهناك بعض الطبعات التي يُكتب في أوّل سُورها اسم السّورة فقط، أنا أتحدّث عن طبعات القرآن الكريم التي نستخدمها نحن، تلك العناوين ليست من القرآن الكريم.
كانت آيات القرآن الكريم تُدَوَّن عند نزولها مباشرةً، سواء نزلت في حضر أو في سفر، يعني عند الإقامة في المُدُن أو أثناء السفر أو في الحرب، فعندما يأتي الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان كتبةُ الوحي يبادرون بتدوينه نزولاً عند أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظونه في الصّدور.
كانت الآيات النازلة تُحفظ بشَغَف وشوق، بفعل ذكاء العرب وقوّة حافظتهم. وهكذا كان عدد حفظة القرآن الكريم كبيراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
كان سيدنا عليّ من بين كتبة الوحي؛ يعني أنه كان يُدوّن الوحي فور نزوله، كان أحدَ المُتقنين للكتابة، وكان أبو أيوب الأنصاري المدفون في إسطنبول أحدَ كتبة الوحي، وأحدَ حُفّاظ القرآن الكريم في نفس الوقت.
وعندما كثُر استشهاد الحُفّاظ الذين كانوا يُسمَّوْن بالقرّاء في ذلك الزمن ـ القرَّاء هم الذين اكتسبوا مهارة في علم القراءة ـ صار الأمر خطيراً، وانطلاقاً من أنه إذا قلّ عدد القراء صار الأمر خطيراً شُكِّلت في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه هيئة علميّة قامت بجمع القرآن الكريم بين دفّتين في مصحف واحد، ثم قُرِئ على النّاس فصوَّبهُ الجميع.
في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه تمّ استنساخ النُّسخة الأمّ؛ أي: القرآن الكريم الذي سبق تدوينه في مصحف واحد، وكُتبت منه نُسخ جديدة تمّ إرسالها إلى أراضي الإسلام المُتّسعة، وإلى مراكز الولايات المُختلفة.
بعض هذه النّسخ موجودة إلى الآن بين أيدينا، وهي محفوظة في المتاحف، كان سيدنا عثمان يقرأ القرآن الكريم عندما استُشهد، والنسخة التي أُهريق عليها دمُه عند استشهاده هي بين أيدينا في المتحف، وعليها أثر دمائه، في دائرة الأمانات المقدسة بمتحف طوب كابي...
يا للسعادة، يا للجمال! نُسخة من القرآن الكريم كتبها سيدنا علي رضي الله عنه ما زالت موجودة، إنّ هذا لأمر باعث على السعادة العظيمة...
دُوِّن القرآن الكريم، وحُفِظ من كلّ تحريف منذ زمن النّبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا هذا؛ لأن الله تعالى تكفّل بذلك: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون﴾([4])؛ أي: إن القرآن الكريم سيظل محفوظاً إلى يوم القيامة، وستبقى أحكامه معلومة.
وتذكر الأحاديث الشريفة بأن آيات القرآن الكريم ستُرفَع في آخر الزمان عند فساد الدّنيا، وعند اقتراب موعد القيامة، هذا المعنى قد يكون على حقيقته؛ لأن الله تعالى قادر أن يرفع آيات القرآن الكريم من بين ظهرانَي الناس الفاسدين، وقد يكون إشارة إلى بداية الإعراض عن أوامر الله تعالى، وعن الاستماع إلى أحكام القرآن الكريم، يعني ذلك أن القرآن الكريم سيظل محفوظاً إلى يوم القيامة؛ لأن الله تعالى تكفّل بذلك.
هذا القرآن الكريم بدأ تدوينه في البداية باعتماد المواد التي كانت في مُتناول الأيدي حينها، فإذا كان بأيدي الصحابة الكرام خرقة، أو جلد فإنهم يكتبون عليه، مثلاً إذا وُجِد عظم كتف واسعٍ لحيوان ـ لأن عظم الكتف يكون مستوياً ـ أو أي مادة أخرى يمكن أن تكون مثل الورق وتصلح للكتابة فإنّه يُكتب عليها.
كانت نُسخ القرآن الكريم القديمة تُكتب بالخط الكوفي ذي الزوايا، وأقدم نصوص ذلك الزمان كانت تكتب أيضاً بالكوفي الحجازي، أو الخط المعقلي (الكوفي المربّع).
طبعاً إذا نظرنا إلى تلك النصوص القديمة سنجد أنها ليست منقوطة، ولا مشكولة مثل المصاحف التي في أيامنا، فقراءة تلك النّصوص هي عمل المُختصّين، فلا يمكن لكلّ أحد أن يقرأَها، التاء فوقها نقطتان، والثاء فوقها ثلاث نقاط، والجيم تحتها نقطة، لقد وجدوا واخترعوا هذه الزيادات واستعملوها.
إذا نظرنا إلى المصاحف التاريخية القديمة سنجد بأن عدد الأسطر وحجم الصفحات مختلف اختلافاً كبيراً، سنجد أنها قد وقع تنظيمها بعد ذلك على امتداد التاريخ، حيث وقع ترتيب الكتابة.
قديمًا كان هناك كتابات جميلة جداً، وفي الأزمان اللاحقة أيضاً، ولكنها شهدت تنظيماً، وبالاعتماد على التجربة تكاملَ ترتيبها.
تمّ تقسيم القرآن الكريم تقسيمات عديدة أيضاً حتى تسهُل قراءته، ويسهُل حفظه، حيث وقعت كتابة نص القرآن الكريم داخل أُطُرٍ، ووُضِعت علامات التقسيم خارجها.
مثلاً قُسّم القرآن الكريم إلى ثلاثين جزءاً، نقول مثلاً: جزء عمّ، وهو الجزء الثلاثون الذي مبدؤه سورة عمَّ، والجزء الذي يبدأ بسورة الفاتحة هو الجزء الأول.
لماذا تمّ تقسيمه إلى ثلاثين جزءاً؟ لكي يُقرأ في كلّ يوم جزء وليُختم في ثلاثين يوماً، حتّى تُختم قراءة القرآن الكريم في ثلاثين يوماً قُسِّم على ثلاثين جُزءاً، سأقرأ أحاديث شريفة في نهاية المجلس.
أحياناً توجد بعض المصاحف من القرآن الكريم مُقسّمة على سبعة أجزاء، في أحد المواضع من مصاحف القرآن الحاليّة تمّت الإشارة إلى سبعة أقسام، تُسمّى هذه الأقسام السبعة بـ "المنزل"، وهو تقسيم القصدُ منه أن يُقرأ القرآن في أسبوع واحد.
وقُسّم كل جزء من الأجزاء الثلاثين إلى أربعة أرباع، وبالتالي فإن في القرآن الكريم مائة وعشرون رُبعاً.
كما أن الطبعات التي لدينا إذا نظرنا إلى صفحاتها سنجد أن هناك إشارة عين عند انتهاء الآيات التي فيها معنى مُكتمل، يعني عند اكتمال القراءة، فإذا كان الإمام في الصلاة وهو يقرأ من القرآن الكريم فإنه بوصوله إلى هذه الإشارة يكون المعنى قد اكتمل، وبإمكانه أن يركع عندها، وربما تكون الإشارة قد أُخذت من حرف العين الأخير في كلمة "ركوع"، أو ربما تكون قد أُخذت من عين كلمة "عشر".
أما العرب ففي الطبعة الأخيرة للقرآن الكريم التي يُوزّعونها على الحُجّاج عند عودتهم من الحجّ فهم يستعملون تقسيم الثلاثين جزءاً، ولكنهم يقسمون كل جزء إلى حزبين، وبذلك يكون للقرآن الكريم ستون حزباً، وبناءً على تقسيمهم يُقسَّمُ كلّ حزب إلى أربعة أقسام، كلّ واحد منها هكذا: ربع حزب، نصف حزب، ثلاثة أرباع حزب، حزب.
وهكذا إذا ضربنا ستين حزباً في أربعة فإنه يكون لدينا مائتان وأربعون حرباً، وذلك أيضا تقسيم آخر؛ فإنهم عند حفظ القرآن رأَوْا أن ذلك التقسيم مناسب، دراساتهم القرآنية، وعاداتهم في القراءة هكذا.
وتحتوي الآيات على إشارات تدلّ عند القراءة على المواضع التي يكون الوقوف فيها حسنًا؛ لاكتمال المعنى، والمواضع التي إذا وقفنا عندها يختلّ المعنى، ومواضع الوقف الجائز، وعدم جواز الوقف.
مثلاً: الميم (م) علامة الوقف اللازم، الطاء (ط) علامة الوقف المطلق، الجيم (ج) علامة الوقف الجائز، اللام ألف (لا) علامة عدم جواز الوقف، هناك أيضاً أشياء أخرى مثل القاف (ق) وقف (قف)... لقد استُخدمت علامة وقف متعدّدة.
تُسمّى هذه الإشارات بالحروف السّجاوندية، وهي إشارات مفيدة من حيث قراءة القرآن الكريم بشكل جميل، وبمراعاة لتمام المعنى.
في نُسخ القرآن الكريم التي بين أيدينا وُضِعت أيضا إشارات المدّ والقصر لمنع أخطاء القراءة، فالأصوات التي تُكتب بنفس الحرف قد تُقرأ ممدودة أحياناً، وقد تُقرأ قصيرة أحياناً أخرى، من يُتقن العربية يمكنه معرفة ذلك بنفسه، ولكن من يقرأ القرآن الكريم دون معرفة للعربية فإنه يحتاج إلى هذه الإشارات.
مثلاً في ﴿أولئك﴾ يوجد همزة، واو، لام، نبرة، كاف، وبالرغم من وجود واو بعد الهمزة إلّا أنّها لا تُقرأ "أولئك" بل "أُلئك"، الهمزة تُقرأ قصيرة، هي عادة هكذا، لذلك وُضعت فوقها علامة قصر للدّلالة على أنها تُقرأ بالقصر.
هناك كلمات تُشبهها، مثل: "أولات حملٍ"، بمعني النِّساء الحوامل. هنا الهمزة قصيرة.
وفي بعض المواضع المدّيّة أيضاً وُضعت إشارة المدّ، وتُسمّى هذه الإشارات بإشارات المدّ والقصر.
لقد تم تشكيل هيئات لتدقيق المصاحف؛ لتجنّب أخطاء الطباعة، ولكي لا يقع خللٌ في وثوقيّة القرآن الكريم بسبب الطبعات التجارية والمزاجيّة، ولعدم السماح بانتشار الطبعات غير السليمة.
وقد اشتغلت هيئات تدقيق القرآن الكريم بشكل دقيق جدّاً، فبسبب خلل بسيط جداً في إشارة، أو حركة حرف كانوا يطلبون تصحيحها فوراً، ولا يسمحون بطبع النسخة وطرحها في الأسواق، ثم يختمونها بختمٍ، وهذا التدقيق ينبع من شدّة الاحترام للقرآن الكريم.
وهناك أيضاً مسألة كتابة القرآن الكريم بخط جميل جداً، فقد قام العثمانيون بهذا العمل، وطوّرُوه بكلّ حبّ وشوق.
عندنا مثلاً أكثر نُسخ القرآن الكريم المُتّبعة هي التي كتبها الحافظ عثمان كايش زاده، نسمّيه بخطّ الحافظ عثمان، ثم نقول خطّ حسن رضا أفندي قدركالي، لقيت خُطوطُهُما إعجاباً كبيراً.
أكثر المصاحف قبولاً هي النّسخ والطبعات ذات إشارات المدّ والقصر التي استعملها الحُفّاظ، والتي كُتبت بأيدي الخطاطين "الآيت بر كنار" المشهورين.
ما معنى "آيت بر كنار"؟ يعني الذي يولي أهمّية بالغة لتسوية أسطر صفحات القرآن الكريم، ولمراعاة عدم قطع الآية من منتصفها، وتفريقها بين صفحتين، والعمل على إنهائها عند نهاية الصفحة، يعني أن الآيات لا تتوزع بين الصفحات، فهي تنتهي عند نهاية الصفحة.
عندما أنظر إلى نُسخ القرآن الكريم التي طُبِعت في وقت قريب أجد أن هناك من يكتبون كتابات جميلة جداً، هناك خطاطون ناجحون جداً، من بين الخطاطين الشُّبّان أيضا ـ رضي الله عنهم ـ هناك من يُهدِي لي كتاباته، هناك من فاز بجوائز دوليّة، رضي الله عنهم...
علماء القارة الهندية، يعني باكستان وشرق أفغانستان والهند... هناك نشأ علماء كبار قدّموا على مرّ التاريخ جهوداً كبيرة من أجل العلوم الدينية.
في تلك البقاع أُلِّفت مآلات للقرآن ـ المآل: هو ترجمة معاني القرآن الكريم ـ قيّمة جدّاً ومرتّبة، فيها معلومات جانبية ومُقوّية للمعنى جميلة جدّاً، أرى هناك طبعات جميلة للقرآن الكريم، لدي في مكتبتي بعض منها، طبعاتها غاية في الجمال، غير أن خطوطها مختلفة عن أسلوب الكتابة الذي ألِفناه، والذي أحبّتهُ أعيُنُنا، يتهيّأُ لنا أن طبعاتنا كأنها أجمل وأرقُّ، وأكثر حيويّةً، وأجمل خطّاً.
النسخ الأخيرة التي طُبِعت في السعودية قد تصعب قراءتها على شعبنا بسبب عدم استعمالهم لبعض إشاراتنا التقليدية، فمثلاً الإشارات الدّالة على المدّ التي نُسمّيها بإشارة "المد" غير موجودة لديهم، مثلا: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم﴾ نحن نقرأ مدّ الـ"آ" من خلال إشارة "المد" هكذا: لَاٰتِيَنَّهُم، ولكنّهم لا يضعون هذه الإشارة، بل يضعون همزة فوق اللام والألف؛ أي: إنّ الألف ستُمَدُّ بعد الهمزة، طبعاً بما أن هناك لامًا، وبما أنّ وضع الهمزة هناك ليس سهلاً فإنه توجد صعوبة في قراءة ﴿لآتِيَنَّهُم﴾، هم لا يستعملون إشارة "المد".
ولكنّهم أكثر دقّة من حيث مراعاتهم لما نسميه بالرسم العثماني، أي: كتابتهم لكلمات القرآن الكريم بنفس الحروف التي كُتبت بها في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه.
أما جماعتنا فقد فكّروا في تسهيل القراءة من خلال إضافة بعض الحروف للرسم العثماني، والرسم العثماني ليس المقصود منه خطّ الحافظ عثمان، بل هو اهتمامهم بدقّة مراعاة الكتابة التي في النّسخُ الأصليّة المكتوبة في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه، وهذا شيء أكثر جمالاً...
تُطبع نُسخ متعدّدة من القرآن الكريم في العديد من بلدان العالم، بعضهم يجتهد في نشر طبعات من القرآن توافق اعتقاداتهم الفاسدة الفاسقة الفاجرة من خلال حذف بعض الكلمات منه بغرض تشتيت الأذهان بأنواع من الادّعاءات، وبأشكال من الابتداعات...
وطبعاً يجب على المسلمين أن يكونوا حذرين فيما يتعلق بالقرآن، عليهم أن يسعَوْا إلى استعمال نُسخ من القرآن الكريم جميلة مختومة، وعليهم أن يقرؤوا طبعات القرآن الكريم التي يوصي بها العلماء.
لقد نزلت الآيات بسبب مجموعة من الحوادث والأحداث، يعني ما الذي حصل حتى أُنزلت الآيات حولَه؟ من المفيد جدّاً معرفة ذلك، تُسمّى أسباب هذه الحوادث بأسباب النزول؛ أي: أسباب نزول الآيات... جمع العلماء هذه المعلومات المفيدة جدّاً في فهم القرآن الكريم بدقّة بالغة.
وأسباب النّزول قسم من أقسام تاريخ القرآن في التاريخ الإسلامي، أُلِّفت حوله العديد من المؤلّفات، والمفسّرون أيضاً بَيّنُوا أسباب نزول الآيات.
طبعًا نزول الآية حول حادثة أو سبب خاص لا يُلغي حكمَها العام؛ أي: إن الحكم عامّ؛ لأنّ الأمر عامّ.
ولكن عندما نقول: "نزلت الآية حول هذه الحادثة"، فالقرآن الكريم يُفهمُ بشكل أفضل، وأحياناً يمنع ذلك الفهمَ الخاطئَ.
في أحد الحروب التي كان سيدنا أبو أيوب الأنصاري حاضراً فيها هاجم أحد الشجعان العدوّ، وتقاتل معهم حتى استُشهد، فقال من رآه ممّن هم خلفه: "انظروا لقد ألقى بنفسه إلى التَّهلُكَة مباشرة حتى استُشهِد، في حين أن القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾([5])، فصحّح هذا الخطأَ أبو أيوب الأنصاري كاتب الوحي، والحافظ وإمام المسجد النبوي، ووالي المدينة سابقاً، فقال مُوضّحاً:
"أيُّها الناس، يا جماعة المسلمين! لم نكن نفهم هذه الآية بهذا المعنى زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي بداية الآية الكريمة قال تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل الله﴾ لا تحرموا أنفسكم من الحسنات بأن تبخلوا وتمنعوا أيديكم من الخير، فلا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة بعدم إنفاقكم لأموالكم في سبيل الله؛ لأنّ تلك الأموال التي لا تُنفقُ في سبيل الله سيُحمى عليها في نار جهنّم، ويُعذَّب بها أصحابُها بأن تُكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم".
يعني أن العلم بأسباب نزول الآيات مُفيد لمنع المعاني الأخرى التي قد تُستخرَجُ من كلمات الآي، إنّ تلك الأسباب مُهمّة، لذلك دوّنها المفسّرون.
في هوامش صفحات القرآن الكريم، في القسم الخارجي لإطار الكتابة توجد إشارات جميلة مُزيّنة، على ماذا تدلّ؟ إنها تدلّ على رؤوس الأجزاء، تُكتب فيها بداية الجزء، ورقمه، أو أقسام الجزء الواحد؛ أي: إنها تدلّ أيضاً على الأرباع.
وهناك أيضاً الإشارات التي تدل على آيات السجود، يُكتب فيها "سجدة"، كما يُرسم سطرٌ تحت العبارة التي هي سبب السّجدة في النّصّ، يجب الانتباه إلى ذلك، ففي آيات السجدة يجب السّجود، يجب أن تُعرف هذه المعلومات المتعلّقة بكتابة القرآن الكريم وشكله.
يجب قراءة القرآن الكريم ودراسته، فقراءته ضرورية جداً، إنها عبادة كبيرة بالنسبة للمسلمين، ذِكرٌ رفيع جدّاً، قراءة القرآن الكريم ذِكرٌ ثوابُه عظيم جدًّا
، لقد رغّب فيه النّبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، أريد أن أقرأ عليكم قِسمًا من تلك الأحاديث الشريفة.
ولكن فلأذكُر أوّلاً بأنّ النّظر في القرآن الكريم أيضاً فيه ثواب، إذا كان الإنسان لا يُتقن قراءته فإن نظره إليه بوصفه كلام الله يُكسِبُه الثواب.
تعرفون بأن غازي عثمان كان رئيس عشيرة، ولكنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، نقول: عثمان غازي، يجب أن نقول عثمان الغازي؛ لأنها في الأصل صِفة، يجب أن نقول: أورخان الغازي، أو يجب أن نقول: غازي عثمان، غازي أورخان.
عندما حلّ عثمان الغازي ضيفاً على الشيخ أدبالي في بيته سأل عن الشيء المُعلّق على الجدار، فقالوا له: "هذا القرآن الكريم، كلام الله"، فلم ينم ليلتها، وظلّ واقفاً وهو قابض يدَيه إلى الصباح.
بسبب هذا الأدب الذي رضيَه الله عز وجل رأى رؤيا في منامه، شجرة تخرج من بطنه تمسك أغصانها بالسماء، شيء عظيم، وعندما ذكر رؤياه للشيخ أدبالي عبَرها له بأن دولة كبيرة جداً ستنشأ من نسله، وأنها ستحكم الدّنيا.
إن لاحترام القرآن فائدة عظيمة، فقد كان هناك لصّ قاطع طريق، رأى يوماً في الطريق ورقة مكتوب عليها اسم الله، ولأنها كلام الله أخذها من الأرض ونظّفها، ثم وضعها في تجويف في الجدار حتى لا يدوسَها أحد المارّة، في تلك الليلة رأى رؤيا، خاطبه الله تعالى في منامه: "بما أنك أبديت حرمة لاسمنا، فإننا باركنا في جسمك، وجعلنا الإيمان من نصيبك". لقد رأى في منامه هذا الالتفات، ثم أصبح بعد ذلك وليّاً كبيراً.
يعني أن حبّ القرآن الكريم، وحبّ اسمه تعالى واحترامه يكسب الإنسانَ ثواباً عظيماً، والنظر إلى وجه القرآن الكريم فيه ثواب كثير، بمجرّد النظر إليه يكسَبُ الإنسان ثواباً.
عندما ينظر الإنسان إلى وجه أبيه ووجه أمّه يكسب ثواباً، وعندما ينظر إلى القرآن الكريم يكسب ثواباً، وإذا نظر إلى الكعبة المشرفة كسَبَ ثواباً، وعندما ينظر إلى وجه شيخه باحترام وحبٍّ قائلاً: "هذا يعلّمني ديني" فإنه يكسب ثواباً، عندما ينظر إلى النهر ويتدبّر في عظمة البحر فيُفكّر في وحدانيّة الله قائلاً: "سبحان الله، تبارك الله" فإنه يكسب ثواباً.
لا نقول قراءة القرآن الكريم، بل مجرّد النظر إليه فيه ثواب، أما عند قراءته فالثواب يكون أكثر، حتى إن الله تعالى يعطي عشر حسنات على كلّ حرف.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات ليس لكل كلمة، فعندما يُقال ﴿ألم﴾ فإن للألف عشرٌ، ولللّام عشرٌ، وللميم عشرٌ؛ أي: تُعطى عشر حسنات مقابل كلّ حرف.
والحسنة ثواب كبير، فالله إذا قبل بلطفه وكرمه حسنة العبد، فإنها تكون سبباً في دخوله الجنة، لذلك علينا أن نُوليَ أهمية بالغة لتلاوة القرآن الكريم، وتلاوته قراءتُه، فالقراءة لها نفس المعنى، كلاهما مُستخدم، وعلينا أن نداوم على ذلك، علينا أن نتعلّم الحروف ونقرأه.
عند قراءة القرآن يُقرأ بالترتيل، القراءة بالترتيل هي قراءة القرآن الكريم بأداء خاص به، هكذا قرأ الصحابة الكرام، وهكذا قرأ سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أن القرآن الكريم لا يُقرأ مثل الكلام العادي، بل يُقرأ بأداء جميل.
لقد أُوصِينا بأن نقرأ القرآن بلحن العرب؛ أي: بأسلوبهم، وأن نقرأه بلهجتهم، وأن نقرأه بتأثُّرٍ، لا كما يقرأ أهل الكتاب كُتُبَهُم، ولكن بشكل جدّيٍّ ووَقُورٍ، وأكثرَ تأثيرًا، بل إنّنا أوصينا حتى بالبكاء عند قراءته.
والآن فلنقرأ تبرُّكًا بعضاً من الأحاديث الشريفة التي تشهد لما ذكرنا.
قراءة القرآن الكريم من بدايته إلى نهايته ـ فيه (114) سورة ـ أي: من الفاتحة إلى ﴿قل أعوذ بربّ النّاس﴾ تُسمّى "ختمًا"، الختم يعني الطابع الذي يُختمُ به؛ أي: يأتي بمعنى الانتهاء من سلسلة أو شيء، ثم ربطه وختمُهُ.
ختم القرآن الكريم فيه ثواب كبير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عند كلّ ختمة دعوة مستجابة"، هذه بُشرى مفادها أنه عند ختم القرآن يُستجاب الدعاء، لذلك نرفع أيدينا، وندعو بدعاء الختم عند ختمنا للقرآن الكريم؛ لأن الدعاء حينها مُستجاب.
لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بختم القرآن الكريم، أوصى مثلاً بختم القرآن مرّة في الشّهر، وبما أن القرآن الكريم ينقسم إلى ثلاثين جزءاً حسب تقسيمنا فإن ذلك يعني قراءة جزء كلّ يوم، وبالنسبة للأشهر العربية يمكن الانتهاء منه في ثلاثين يوماً عندما يكون الشهرُ ثلاثين يوماً، وعندما يكون الشهر تسعة وعشرين يوما يُقرأُ جزءان في اليوم الأخير.
أوصى أيضاً بأن يُختم في خمس وعشرين يوماً، حسب الشخص، كما أوصى بأن يُختم في عشرين يوماً، وبأن يُختم في خمسة عشر يوماً، وبأن يُختم في عشرة أيام.
الختم في سبعة أيام أسلوب جميل بالنسبة لبعض الحُفّاظ الذين يمكن لهم القراءة بسرعة، عندها يُسمّى الورد اليومي من القراءة بـ"المنزل". وفي الطبعات الهندية والباكستانية إشارات لمواضع هذه الأسباع؛ لأن عندهم الكثير من العلماء الذين يدأبون على ذلك...
ثم هناك القراءة في ثلاثة أيام، يعني قراءة عشرة أجزاء في اليوم، ولم يوصِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة بأسرع من ذلك؛ لأن المعنى لن يُفهم حينها، وسيمتنع اتّباعُهُ.
ولكنّنا نعرف من خلال كُتُب المناقب بأن أبا يزيد البسطامي حجّ ماشياً لثلاثين عاماً، وأنّه كان يختم القرآن كلّ يوم، كان يقرأ بسرعة تجعله يقدر على ختمه مرّة كلّ يوم.
الشيخ عمر ضياء الدين أفندي أيضاً كان يختم القرآن في ستّ ساعات، وهو أحد شيوخ تكيّتنا الكُمُشخانويّة، ستّ ساعات تعني أنّه كان يختم وهو يقرأ بشكل سريع جدّاً.
المرحوم البروفيسور يوسف ضياء بيناتلي كان ابنه، جعل الله مضاجعهم جميعًا نورًا، وجعل مقامهم عالياً، يوسف ضياء بيناتلي بروفيسور كان يُدرّسُ الحقوق في التعليم المفتوح، كان المرحوم حافظاً، كان يذكر عندما كان في صحّته أنّه عندما يغلق عينيه تأتي صفحة القرآن الكريم أمام عينيه، كان حفظُه قويّاً لدرجة يمكنه معها أن يقرأ القرآن الكريم آية آية يبدأ من الأسفل رجوعًا إلى الأعلى.
إذا قيل: ماذا علينا أن نفعل الآن؟ فإني أقول: إن علينا أن نأخذ العبرة من هؤلاء، فلنخجل ولننظر إلى حالنا، فلنقرأ من القرآن الكريم صفحة في اليوم على الأقل، وعند قراءتنا لهذه الصفحة فلنتتبّع معناها وتفسيرها من كُتُب المآل (ترجمة معاني القرآن الكريم) والتفسير، وبذلك فأنا أنصح بأن نختم القرآن مرّة في السّنة على الأقل.
أسأل الله تعالى أن يمنحنا حبّه والشوق إليه... وأن يمنحنا احترام القرآن الكريم وحُبّه... وأن يُنعم علينا بالتّمسّك بالقرآن الكريم، وبحسن قراءته، وبفهم أحكامه، والعمل بمقتضاها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ القرآن في كلّ شهر"، قال: إنّي أجد قوّة، قال: "فاقرأه في عشرين ليلة"، قال: إني أجد قوّة، قال: "فاقرأه في عشرٍ"، قال: إني أجد قوّة، قال: "فاقرأه في سبعٍ، ولا تزد على ذلك".
هذا حديث صحيح رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم لهذا الراوي المبارك عبد الله رضي الله عنه: اقرأ القرآن في كلّ شهر، اختم في كلّ شهر، اقرأ القرآن الكريم في كلّ شهر، قال: إنّي أجد قوّة، أنا أحسّ في نفسي قوّة، أستطيع أن أقرأ بأسرع من ذلك يا رسول الله، أنا قويّ ويمكنني أن أفعل أكثر من ذلك، قال: فاقرأه في عشرين ليلة. قال: إنّي أجد قوّة. وعندما قال: أنا أقوى على القراءة بأسرع من ذلك، قال: فاقرأه في عشرٍ، يُعادل ذلك ثلاثة أجزاء في اليوم، قال: إنّي أجد قوّة، أنا أقوى على القراءة بأسرع من ذلك، قال: فاقرأه في سبعٍ، يعني مرّة في الأسبوع، ولا تزد على ذلك، لا تُسرع أكثر من ذلك، يعني يقول صلى الله عليه وسلم بأن الختم في سبعة أيام بالنسبة لك مناسب.
في حديث شريف آخر رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أيضاً، وأخرجه أحمد بن حنبل: "اقرأ القرآن في كلّ شهر، اقرأه في خمس وعشرين، اقرأه في خمسة عشر، اقرأه في عشر، اقرأه في سبع، لا يفقهُهُ من يقرأه في أقل من ثلاث".
من يقرأه في أسرع من ثلاثة أيام لا يفهم معناه، ولا يستوعب عُمقه؛ لأنه يمرّ بسرعة حتى يختمه بسرعة، يعني أن الذين يختمون في أقل من ثلاثة أيام يقومون بشيء يفوق المطلوب.
ثم يقول نبيّنا صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا القرآن بالحزن، فإنه نزل بالحزن".
نزل القرآن بالتزامن مع كثير من الأحداث الأليمة والصراعات، وظلم الكافرين، يعني أن القرآن يُقرأ بالحزن على قدر الأذى الذي أصاب الصحابة الكرام والمسلمين بسبب إيمانهم، فهو ليس أغنية، أو قطعة موسيقية عادية، يجب قراءته بشكل يُبرز جِدّيّتهُ.
"اقرؤوا القرآن بلُحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحونَ أهل الفسق، وأهل الكتابَيْن".
أوصى صلى الله عليه وسلم بأن اقرؤوا القرآن الكريم بلحون العرب وأصواتها، ولا تقرؤوه على ألحان أهل الفسق؛ أي: المغنّين، وضَرَبَةِ الدّفّ، والعازفين، ولأهل الكتاب طريقة في قراءة كُتُبِهم، لا تقرؤوا مثلَهم.
"وسيجيئ قوم من بعدي يرجّعون القرآن ترجيع الغناء، والرهبانية، والنَّوح، لايجاوز حناجرَهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يُعجبهم شأنهم".
سيأتي أُناس من أمّتي بعد عصورٍ بعدي يقرؤون القرآن كأنهم يغنُّون، يقرؤونه بشكل أُحاديّ النّغمة، وبنسق واحد لا ذوقَ فيه، وبما يُشبه صياح النّائحين، أولئك لا يجاوز القرآن الكريم حناجرهم إلى قلوبهم، يقرؤون من أفواههم فقط، ولا يقرؤون من دواخلهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين تُعجبهم قراءتهم، سيكونون من المفتونين.
يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم أيضاً:
"اقرؤوا القرآن وابكُوا، فإن لم تبكوا فتباكَوا، ليس منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن".
يجب قراءة القرآن الكريم بشكل جميل وخاصّ به.
يقول نبيّنا صلى الله عليه وسلم:
"تعلموا القرآن، فاقرؤوه وارقدوا، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جِرابٍ محشوٍّ مسكاً، تفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلّمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جِراب وُكِئَ على مسكٍ".
تعلموا القرآن فاقرؤوه ثم ناموا، فإن من تعلم القرآن الكريم وقرأه وعمل بأحكامه كمثل جرابٍ محشوٍّ مسكًا، تفوح ريحه في كل مكان، ويُعجبُ الجميع ريحهُ ويُرضيهم.
ومثل من تعلّمه ونام بدون أن يقرأه، الذي لم يقرأه في ليله أو في نهاره، والقرآن الكريم في جوفه، كمثل جراب مسكٍ مربوطٍ فمُهُ؛ أي: أن فيه مسكاً، ولكنه لا يفوح؛ لأن فمه مربوطٌ لا يقرأ، يعني أن قراءة القرآن الكريم تكون مثل الحلوى، ثم يقع النوم بعدها.
هناك حديث شريف آخر رواه ابن مسعود:
"تعلّموا القرآن واتلُوه، فإنّ الله جازيكم على تلاوته بكلّ حرف عشر حسنات، أما إنّي لا أقول: ﴿ألم﴾ حرفٌ".
لأن الحرف في العربية يأتي بمعنى الأداة أيضاً؛ أي: إنه قد لا يأتي بمعنى حروف أ، ب، ج التي في لغتنا، فهو بقوله: "لا أقول: ﴿ألم﴾ حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" يؤكّد أن لكلّ حرف مستقلّ عشر حسنات.
ويقول صلى الله عليه وسلم:
"تعلموا القرآن، وسَلُوا به الجنة قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآنَ يتعلمه ثلاثة نفرٍ، رجلٌ يُباهي به، ورجلٌ يستأكل به، ورجلٌ يقرأه لله".
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعلموا القرآن وسَلُوا اللهَ به الجنّة"، اقرؤوه وقولوا: يا رب بلّغني الجنّة، إنني أقرأ القرآن.
قبل متى؟ قبل أن يأتي قومٌ يقرؤون القرآن يطلبون به الدّنيا، أنتم اقرؤوا القرآن واطلبوا به الجنّة؛ لأن القرآن يقرؤه ثلاثة نفرٍ:
الأوّل رجلٌ يتعلّمه لكي يُباهي به ويتفاخر، يعني يتباهى بأنه تعلّم القرآن، ويتفاخر بعلمه... هذا غير مقبول.
والثاني رجلٌ يأكل بالقرآن، ويسترزق منه، أي: يريد به الدنيا، هذا غير مقبول، وعمله هذا ذنب.
وهناك من يقرؤه يريد به مرضاة الله، يقرؤه بإخلاص، فيتمسّك بما علّمه الله وأمره به.
يعني ذلك أن بعض الناس سيتّخذون من القرآن الكريم آلة لتحصيل المتاع الدُّنيويّ، حيث يقول صلى الله عليه وسلّم: اقرؤوه لنيْل مرضاة الله وسَلُوا به الجنّة، إذاً فعلينا أن نسعى لأن نكون ممّن يقرؤونه بإخلاص.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعلّموا القرآن، وعلّموه النّاس".
يعني ذلك أن علينا نحن وإياكم أن نتعلّم القرآن الكريم، وأن نُعلّم قراءته لجميع أولادنا، ومَن هم تحت إمرتنا، كما أن علينا أن نتعلّم معانيه، وأحكامه، وتفسيره حتى نعمل بمُوجبه.
فلنتمسّك بكلّ ما أمر به الله تعالى، ولنتجنّب جميع ما نهى عنه؛ لكي ننال بذلك رضاه، وندخل جنّته، ونَصِل إلى رضوانه الأكبر...
بذلك يكثُر عدد أهل القرآن إن شاء الله، ويقوَى دينُنا وينتشر، فيحكم دين اللّه الأرض، وإذا حكم دين الله فإن العلم والعرفان والأخلاق والرحمة والإنسانية تكون حاكمة، وبالتالي يصل الإنسان، وعالم الإسلام، بل وجميع الخلائق، وجميع الناس إلى السعادة.
كان الله تعالى رفيقَنا لتوفيقه... وأعزّنا الله وأسعدنا جميعًا في الدّارين.
* Akra Fm، حديث إذاعي بتاريخ 6 / 10 /1988 م.
([1]) آل عمران: 7.
([2]) آل عمران: 7.
([3]) العلق: 1 - 5.
([4]) الحجر: 9.
([5]) البقرة: 195.