الأمة الإسلامية مكونة من شعوب مختلفة وهذا يعني تنوع الشعوب والثقافات والتقاليد والعادات والأعراف وهذا يعني اختلاف التفكير وتنوعه, وقد أخرج لنا الحديث الشريف ثقافة موحدة وسلوكاً موحداً في الأمة الإسلامية , وجعل الشعوب المختلفة أمة واحدة وحماها من الضلال والبدعة ومن اتباع الثقافات الأخرى والانحلال فيها والانقياد إليها.
البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، سيدنا وسندنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان أجمعين
نتحدث اليوم عن السنة المطهرة في حياتنا، وقبل أن نشرع في الكلام عن مكانة السنة وأهميتها في حياة المسلم، لنتعرف على معنى كلمة السنة في اللغة.
السُنة : لفظ مشتق من فعل سنَّ، والسنة هي الطريقة حسنة كانت أو سيئة، وهي المسلك والمنهج، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها من بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئاً)
وعلى العكس أيضاً ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا).
هذا المعنى العام للسنة ويوجد لها معانٍ أخرى خاصة منها:
أقوال رسول الله r- الذي هو قدوتنا في ديننا - وأفعالُه وتقريراته.
والتقرير : هو سكوته r ، كأن يفعل شيء أمامه ثم لا ينهى عنه فهذا إقرار منه على إباحته، فحتى سكوته r له معنى, وهو دليل معتبر في إثبات الحكم أو نفيه .
حديثه r يفهم بشكل مباشر, لكنه إن تحرك ولو لم يتكلم فحركته أيضاً r هي قدوة لنا، كحديث شرب النبي r الماء وهو جالس، وأثناء حجه r في مكان كذا فعل كذا وكذا، فمثل هذه الروايات تدخل في هذا الأمر, وهنا عندما يقال (أهمية السنة) فالمقصود هو اقتداؤنا بنبينا القدوة r والاستفادة من أقواله وأفعاله وتقريراته.
وفي الفقه تمر معنا كلمة السنة أيضاً, فمن المصطلحات المذكورة في باب أفعال المكلفين من ناحية الثواب والعقاب يذكر الفرض والواجب والسنة والمباح, فمن ذلك إذا قيل هذا (سنة) فالمعنى أن هذا شيء فعله النبي r لكنه ليس فرض بل يأتي بعد الفرض في الأدلة الشرعية في المرتبة الثانية والثالثة.
من المؤكد أن للفظ ( السنة) في حياتنا الاجتماعية معان أخرى، فعندما يقال في تركيا ( فَعَل السنة) فإنه يذكر الأطفال بذكرى جميلة، وهي وصية سيدنا محمد r بإجراء عملية الختان، المشار إليها في حديث خصال الفطرة العشر مما يجب على المسلم عمله : فمنها إزالة شعر الإبط، وقص الأظافر، والإختتان…..
وفي اللغة العربية لا يطلقون عليها اسم السنة بل (الختان)، وفي اللغة التركية أُطلق عليها اسم السنة، لأن علمائنا أرادوا أن يحببوا الناس ببعض الأعمال الصالحة، فأطلقوا اسم النية التي يعمل من أجلها العمل على العمل كله.
أهمية السنة في ديننا كبيرة جداً، وهذا ما لا شك فيه ولا شبهة ولا مكان للجدل فيه.
هناك آيات كثيرة تأمرنا باتباعه r والاقتداء به في كل جانب من جوانب الحياة، وسأذكر بعضاً من تلك الآيات نموذجاً على أهمية السنة.
يقول الله عز وجل بإيجاز و وضوح : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ }
وأيضاً :
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}
يستفاد من ذلك :
لا يحق لمؤمن ولا مؤمنة إذا أراد الله بحكمه المتمثل بالقرآن الكريم، ورسوله الذي يحكم بأمر الله ولا ينطق عن الهوى أمراً أن يختاروا ما يخالف ذلك، بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره r ، وينزلوا عند رأيه، ومن يعص الله ورسوله في أمر من الأمور فقد ضل عن الحق والصواب ضلال واضحاً مبيناً.
وهذا الأمر ليس خاصاً بنبينا محمد r ، بل قال الله سبحانه وتعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ } يبين الله سبحانه وتعالى أنه ما أرسل من رسول إلا ليطاع بقوله وحكمه وأمره ولا يخالف وهكذا كل نبي مرسل، أمر الله سبحانه الأقوام بإطاعته وعدم مخالفة أمره، وهذا قانون إلهي محتوم.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
لا الأمر ليس كما تظنون ، ليس كما تتصورون أوكما يخطر في أذهانكم من الأفكار فالمؤمن ليس من يقول آمنت ثم يجلس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فبهذا لا يكون الإنسان مؤمنا حق الإيمان
فالله سبحانه وتعالى يقسم بذاته الكريمة، أنه لا يكتمل إيمان الناس حتى يحكموا رسوله في كل شيء يحصل فيه اختلاف، ثم لا يكفي ذلك التحكيم بل يجب أن ينتفي الحرج والضيق من قلوبهم ، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليماً كاملاً يدل على إيمانهم وصدقهم في تسليمهم لأمر الله ورسوله.
إذن على المؤمنين أن يقبلوا ما قاله رسول الله r بانشراح صدر وطمأنينة نفس ولو كان الحكم عكس ما يريدون، فعليهم الانقياد ظاهراً وباطنا.
ما مكافأة هذا؟
قال تعالى:
(ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا), فالمطيعون لله ورسوله ستكون مكافأتهم كبيرة لدرجة أنهم سيكونون مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
ورسول الله r ليس كبقية الناس في أوضاعه وأحواله وخَلْقه وخُلُقه. قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى). فرسول الله r ليس بالرجل الذي يتكلم تبعاً لهوى نفسه ولا يكون كلامه عبثاً, فإذا قيل: إنه بشر. نعم لكن ليس كالبشر, فكلامه r ليس عبثاً بل وحي من الله تعالى. وعلماء الإسلام يقسمون الوحي إلى قسمين:
1 . وحي متلو: وهو القرآن الكريم.
2 . وحي غير متلو: وهو المعنى الذي يأتي إلى قلبه الشريف r إلهاماً من الله عز وجل ثم هو r يقوله بألفاظه للناس , يعني أقواله r وهي السنة النبوية المطهرة , وهي ليست عبثاً أو بلا سبب.
وهناك آية أخرى عن رسول الله r وهي: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل, لأخذنا منه باليمين, ثم لقطعنا منه الوتين).
أي لو فرض وقوع المستحيل بأن يزيد الرسول شيئاً من تلقاء نفسه وينسبه لله لأمسك الله يده وقطع منه العرق الأكبر الموصول بالقلب وقطع نياط قلبه وقهره ولم يسمح له بهذا الفعل
فالله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده وشفقته عليهم أرسل سيدنا محمداً r, فلو لم يرسل النبي r لما كان باستطاعة العباد العمل بطاعة الله عز وجل, وإذا لم يستطيعوا العمل بطاعته فقد تعرضوا لغضبه ثم لعذابه في الآخرة ودخول جهنم. فالله عز وجل من رحمته بعباده أرسل النبي r ليعلمهم طرق طاعة الله وعبادته.
اعترض بعض اليهود وغير المسلمين من الأمم القديمة على نبوة سيدنا محمد r واتخذوا منها موقفاً فقالوا: نحن عباد الله المخلصين نحب الله ويحبنا الله , ونحن على طريقه المستقيم , وطريقنا هذا يكفينا. فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة يرد عليهم فيها (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم).
إذاً فاتباع رسول الله r وسيلة لحب الله للعبد, وهذه هي الآيات في هذا الموضوع, طبعاً لا حاجة لتعداد الآيات لهذه الدرجة, لأن آية كريمة واحدة أو إشارة في آية كافية للمؤمن, فلا حاجة لتعدد الأمر بل يكفي أمر واحد, لكن كثرة الأوامر تدل على أهمية كبيرة لهذا الأمر.
لذلك فقد أوضح لنا الله عز وجل في القرآن الكريم وجوب اقتدائنا برسول الله r على كل نحو والرضا بحكمه وعدم الاعتراض على حكمه ظاهراً وباطناً وطلب منا التسليم الكامل له r .
لقد بَلَّغَ نبينا r ما أمره الله بتبليغه, فمثلاً يقول ( أنا سيد العرب ولا فخر, أنا سيد ولد آدم ولا فخر), معنى (ولا فخر) أي لا أقوله بقصد الفخر وإنما أقوله لأن الله أمرني بتبليغه .
وقال r (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده و ولده والناس أجمعين) رواه البخاري ومسلم. فيجب على الإنسان أن يحب رسول الله r أكثر من أمه وأبيه وبنيه وأكثر من زوجته شريكة حياته وأكثر من أي أحد وإلا فلا يمكن أن يكون مؤمناً حقاً ولا يستطيع أن يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقي.
وهناك حديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي يختصر هذا الموضوع بشكل واضح تماماً, وهو ما رواه أبو هريرة t قال : قال النبي r: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله), لذلك فعصيان رسول الله r ومخالفته والاعتراض عليه ليس محلاً للنقاش أبداً , فمن شروط تمام إيمان المؤمن الطاعة المطلقة والتسليم التام لرسول الله r , فهذه الحقيقة توجب علينا الانتباه بشدة إلى أقواله وحركاته r , وتظهر وجوب الاقتداء به في جميع مناحي الحياة.
أما البدعة في بخلاف هذا تماماً , فخروج الإنسان عن طريق الحق وعن الحدود التي خطها رسول الله r مع الابتداع في الدين خارج حدود السنة والشريعة يوصل صاحبه إلى الكفر, فالبدعة هي قيام الإنسان بأعمال لم يفعلها رسول الله r ولم يقلها مع الظن أنها من الدين وأنه ينال بها رضا الله تعالى ويتقرب إلى الله بها.
لقد ذُمَّ صاحب البدعة ومبتدعها في العديد من الأحاديث, يقول سيدنا النبي r: (إياكم والبدعة, فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة تصير إلى النار). بناء على هذا يجب على الإنسان أن يلتزم سنة النبي r التي سنها , وأن لا يبتدع شيئاً متبعاً هوى نفسه.
أخرج الديلمي وابن ماجه عن حذيفة t قال: قال رسول الله r: إن الله لا يقبل لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجاً ولا عمرة ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً حتى يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين). إذاً فهذا الحديث يخبرنا بخطورة المخالفين للسنة وأهل البدع.
لقد تعلم علماء الإسلام من هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما يجب عليهم فعله, ولقد تتبع العلماء حياة النبي r بشكل دقيق مستفيدين من الصحابة الكرام الذين كانوا في عهده r ورأوه وعاشوا معه, فسجل العلماء كل ما شاهده وسمعه الصحابة بمنهج علمي دقيق وهكذا نقلوا إلينا أقواله r وحياته بالتفصيل وعلى أكمل وجه.
والعلماء قد ضبطوا هذا العلم ووضعوا له قواعد خاصة مختلفة عن بقية العلوم.
فمثلاً لدينا سند الحديث والحديث نفسه وسلسلة الإسناد التي تخبرنا بمن سمع ذلك الحديث , فقد تم تدوين اسم الصحابي الذي سمع الحديث ولمن حدث به وهكذا دُوِّن كل من سمعه وحدث به إلى العالم الذي جمع هذه الأحاديث في كتاب واحد.
ولنأخذ البخاري مثلاً: فللبخاري سلسلة سند يقول(سمعت هذا الحديث من فلان وهو سمعه من همام بن منبه وهو سمعه من فلان عن فلان).
اعترض بعضهم على هذا السند ظاناً ان فيه انقطاعاً لكن عندما وجدت صحيفة همام بن منبه تبين أن صنيع البخاري صحيح وانه لا انقطاع في السند
لقد جمع العلماء الروايات الصحيحة من الحديث من خلال نقد رجال السند بشكل دقيق وألفوا في هذا كتب الجرح والتعديل, فمثلاً أحد الأشخاص قد يكون جيداً لكنه في آخر عمره ضعفت ذاكرته فصار يخلط الأحاديث . ولقد سجل العلماء هذه التفاصيل حتى أنهم قالوا: فلان في آخر عمره ضعف حفظه قليلاً فيمكن أن يخلط في بعض الأحاديث.
لم يحصل لأحد في الدنيا في أي مكان أن تسجل حياته بتفاصيلها كما حصل لسيدنا محمد r , فقد تم تدوين حياته بتفاصيلها الدقيقة r , ماذا فعل في الليل, ماذا فعل في النهار , ماذا فعل عند زواجه , ماذا تكلم مع زوجته , كيف أكل طعامه , كيف غسل يده, كيف دخل الخلاء وكيف خرج منه, كل هذا تم تدوينه , وهذا ما لم يحصل لأي بشر في التاريخ سوى لسيدنا رسول الله r . وهذا بالنسبة لنا نعمة كبيرة جديرة بالشكر, لأن واحداً من أصول الدين وهي السنة قد نقلت إلينا من مصدر حصين متين بنهج علمي دقيق.
والمشتغلون بالسنة يطلق عليهم أصحاب الحديث ولهم مكانة خاصة بين علماء الإسلام, وقد كتب في فضائلهم العديد من الكتب مثل (شرف أصحاب الحديث) كما كتبت العديد من الكتب في مناقبهم وعظيم أجرهم.
لقد كان العالم يسافر من بلد إلى بلد ليسمع حديثاً واحداً, طبعاً ليس بالطائرة, لكن بالإمكانات المتوفرة في ذلك الزمن, فكانوا يذهبون مشياً ويقاسون ألف مشقة ومشقة منتظرين ثوابهم من الله تعالى فقط, لقد كان أحدهم يسافر من خراسان إلى القاهرة إلى العراق لأنه سمع أن فلاناً يعرف حديثاً عن النبي r , فهمتهم كانت عالية إلى هذه الدرجة.
إمام المذهب المالكي الإمام مالك بن أنس كان شخصاً عظيماً فقيهاً مفتياً, له اعتبار عند الخليفة في زمانه, صاحب شخصية متواضعة يقصده الناس من كل مكان, كان إذا طرق أحد بابه قال له: أهلا وسهلاً لماذا أتيت ما حاجتك؟ فيقول: سيدي عندي مسألة فقهية أريد أن أستفتيك فيها, فيقول له تفضل يا ولدي , وكان يسمع المسألة ويجيبه عليها.
لقد كان في نفس الوقت عالماً بالحديث راوياً وحافظاً ومحدثاً, كان عندما يأتيه طلاب العلم يقولون له: (يا إمام جئنا لنسمع منك الحديث) كان يقول لهم: تفضلوا إلى الداخل فكانوا يدخلون, وكان يطيب البيت بأغلى أنواع البخور – وللمبالغة بإكرام الضيف عند العرب يقدمون له البخور, أظن أن الذي ذهب إلى العمرة قد رأى كيف أن الذين في الصفوف الأولى من الأغنياء والعلماء وأصحاب المراتب الرفيعة كيف يحضرون لهم البخور فيستنشقونه ويقربونه من ملابسهم لتأخذ من رائحته, أيضاً بعضهم يطوف وهو حامل البخور لكي يشم الناس رائحة طيبة أثناء الطواف – والإمام مالك أيضاً كان يشعل البخور لضيوفه, وكان يدخل فيتوضأ, هو في الأصل على وضوء لكنه كان يتوضأ احتراماً وإجلالاً لرواية الحديث وكان يلبس ملابس العيد أفضل ملابسه ويضع أفضل عمائمه وكان يضع في مجلسه طاولة للكتاب من أفضل الأنواع وعليها غطاء من قماش من أغلى الأقمشة فيجلس وفي مقابله طلاب العلم قد جلسوا بجدٍ لاستماع الحديث فيحدثهم ويقول: (سمعت من فلان قال رسول الله r كذا وكذا ) يقرأ حرفاً حرفاً وهم يكتبون ثم يراجع ما كتبوا ثم يجيزهم بالرواية عنه, لقد كان هذا هو نهج علماء الحديث وطريقتهم في جمع الحديث.
وفي هذا الموضوع قصة مهمة تروى عن أحد علماء الحديث وهي أن هذا العالم سمع أن راوياً للحديث بمكان كذا بمدينة كذا فرحل إليه مع طلابه ليأخذوا عنه الحديث فوجدوه في مزرعته يشير إلى حصانه بطعام فأتى الحصان ظانَّاً أنه سيأكل فلما أتى أمسكه ولم يعطه الطعام فإنه كان يفعل ذلك لإمساكه, أراه الطعام ولم يطعمه, فقال العالم لطلابه لا نستطيع الأخذ عن هذا الرجل لأنه خدع حصانه فصار في عدالته شائبة, ورجع مع طلابه من حيث جاء. وهذا يظهر درجة الدقة التي عملوا بها.
و توجد آلاف من كتب الحديث عن النبي r ومئات آلاف الأحاديث, لأن الصحابة كانوا حريصين على حفظ ما يرونه ويسمعونه منه r بدقة وحاولوا نقله إلينا بأفضل طريقة.
لدينا مئات المجلدات من كتب الحديث, ولقد تم تأليف كتب لسهولة الوصول إلى كلمات الحديث مثل المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوية.
لا يوجد أمر من الأمور أو مشكلة من المشاكل في حياتنا اليومية قديمة كانت أو جديدة إلا ولها حل في الحديث الشريف إذا كنتم على دراية فيه واطلاع, فمحتوى الحديث الشريف غني لدرجة أنه لم يترك فتنة ولا رأياً ضالا أو مخالفا ولا مشكلة اجتماعية إلا وأخبرنا عنها.
فجمع الحديث هكذا يسهل ويساعد على فهم القرآن الكريم بأحسن وجه, فالقرآن الكريم نزل على رسول الله r, ولقد طبق رسول الله r أحكامه على نفسه أولاً, وقام بإيضاح بعض الأمور لكي نستطيع نحن أيضاً تطبيقه في حياتنا.
ولهذا فلو لم يكن الحديث الشريف لما استطعنا معرفة مقدار الزكاة وكيفية أدائها ولما عرفنا كيفية الصلاة أبداً لأن القرآن الكريم يقول: (أقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة) أما التفاصيل ففي الحديث الشريف, بناء على هذا فإن السنة النبوية المطهرة كانت الوسيلة المثلى لفهمنا القرآن الكريم بشكل صحيح ولتطبيقه في حياتنا على أحسن وجه.
لهذا فإن السنة النبوية المطهرة تأتي في مقدمة المصادر الشرعية في ديننا بعد القرآن الكريم ويمكننا القول بأنها الأصل الأول لأنها توضح القرآن الكريم.
الأمة الإسلامية مكونة من شعوب مختلفة وهذا يعني تنوع الشعوب والثقافات والتقاليد والعادات والأعراف وهذا يعني اختلاف التفكير وتنوعه, وقد أخرج لنا الحديث الشريف ثقافة موحدة وسلوكاً موحداً في الأمة الإسلامية , وجعل الشعوب المختلفة أمة واحدة وحماها من الضلال والبدعة ومن اتباع الثقافات الأخرى والانحلال فيها والانقياد إليها.
ولهذا يمكنكم الاتفاق والتفاهم مع أي مسلم باكستاني أو سوداني أو مصري أو جزائري أو بلقاني أو أي مسلم يعرف الحديث جيداً لوجود الوحدة الثقافية , فالوحدة الناشئة عن الحديث الشريف تتمثل في وحدة الذوق و وحدة السلوك و أسلوب الحياة.
ولقد ساهم حفظ الحديث بهذه الدقة في حفاظ الحديث الشريف على الدين الإسلامي بقوة من التحريف والتبديل والتغيير الذي كان في الأديان السابقة.
ولكي نفهم أهمية هذا لنقم بمقارنة في التاريخ: بين عصرنا وعصر سيدنا محمد r 14 قرناً, لكن لم يمض قرن بعد عصر سيدنا عيسى u حتى فسدت النصرانية, وخرجت فيهم عقائد فاسدة لا يرضى عنها سيدنا عيسى, فسيدنا عيسى لم يقل لهم أبداً (أنا ابن الله) ولم يقل لهم (اعبدوني من دون الله ) لكن هذا كله حدث بعد فترة قصيرة جداً على الرغم من كون هذا مخالفاً لسيدنا عيسى ولما قاله وليس عنه براضٍ أبداً.
وقد طرأ الفساد على بعض الأديان الأخرى أيضاً, يقول البروفيسور المختص بتاريخ الأديان المرحوم حكمت تانيو (Hikmet Tanyu) أن زردشت في الأصل هو نبي, فبعد وفاته تحولت الزردشتية إلى عبادة النار (المجوسية), ويقول الأستاذ محمد حميد الله أن بوذا في الأصل نبي, ثم تحولت من بعده البوذية إلى الوثنية, نحن في لغتنا التركية كلمة (put ) تعني صنم لها علاقة بكلمة (buda) بوذا ثم أصبحت اسم علم ثم اسم جنس يطلق على الشيء المعبود من دون الله ويقال له في لغتنا التركية (fetişin, sanem) يعني صنم.
إذاً فالفساد والانحطاط يحصل في الأديان, ولقد تعلمون من قصص القرآن الكريم كيف ضلَّ اليهود في حياة سيدنا موسى عندما ذهب إلى جبل الطور لتلقي الوحي فقد قام قومه بجمع الزينة وقام السامري الحرفي الوثني بصناعة عجل لهم: (فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار), كان ذلك فناً من الصناعة, يدخل الهواء من طرف ويخرج من الطرف الآخر مخرجاً صوت عجل,- لماذا لا نستطيع نحن إخراج الصوت الجميل من الناي؟ لكن المحترف ينفخ فيه فيخرج مقطوعات صوتية جميلة- طبعاً العجل كان له خوار فقط, وماذا يفيد الخوار؟ العجل لا يتحرك وليس له أي فائدة أو ضرر, لقد تأثر قوم سيدنا موسى بثقافة المصريين وأصابتهم العدوى ففسدوا في حال حياة سيدنا موسى, لقد كان المصريون يعبدون الثور وعدة أشياء أخرى, فقد كان لهم عدة آلهة مثل التمساح والثور وإله الموت بجسم رأسه رأس كلب وإله برأس نسر اسمه (حورس) وهو الآن شعار شركة الطيران المصرية, مع الأسف اتخذوا الصنم حورس شعاراً لهم.
ومن فضل الله تعالى أن هذا الفساد والانحطاط لم يحصل في الإسلام والحمد لله وهذا جدير بالشكر, لكن لماذا لم يحصل؟ لوجود المحدثين ولأن السنة النبوية المطهرة دُوِّنت ونقلت على أكمل وجه.
إن طريق تغيير المسلمين وإفسادهم وإبعادهم عن دينهم يكون بهدم الحديث الشريف والسنة المطهرة, ولأن أعداء الإسلام يعلمون هذا جيداً فقد بذل المستشرقون والتبشيريون النصارى قصارى جهدهم في خداع المسلمين من خلال الهجوم على كتب الحديث ومحاولة هدمها والتشكيك في صحتها.
أتذكر جيداً عندما كنت في السنين الأولى في الجامعة كنا نقرأ كتاباً لتعليم اللغة العربية يحتوي على نصوص عديدة اسمه (kristometi) من تأليف الأوروبيين, وبالنهاية ستقرؤون بعض النصوص لتطوير اللغة العربية, لكن النصوص كلها تم اختيارها بدون إنصاف وكلها مبنية على الكذب والتجريح والنوايا الخبيثة, ومثالا على تلك النصوص: (ركب أحد علماء الحديث سفينة وكان بجانبه يهودي ونصراني, فأخذ العالم زجاجة خمر من سلة النصراني وبدأ يشرب _ طبعاً عالم الحديث لا يشرب الخمر لكن هكذا يقول كاتب النص - فقال له اليهودي: توقف ماذا تفعل لا تشرب هذا خمر, فقال عالم الحديث: من أين يظهر أنه خمر؟, فقال اليهودي: صاحبه بائع خمر أخذه من دكان بيع الخمور فالذي داخل الزجاجة خمر, فقال العالم: نحن علماء الحديث لا نعتبر رواية اليهودي عن النصراني).
فهذا النص يستهزئ بسلسلة الرواية ويطعن بآلية ضبط الحديث الصحيح العلمية ويحقرها , طبعاً هذا غير منصف أبداً, فأنتم إن لم تتحقوا من صحة الرواية كيف تجعلونه علماً؟ فالتحقق من صحة الرواية وتدقيقها من أهم الأمور , ولقد كان المستشرقون غير منصفين لدرجة أنهم قالوا أن أحاديث النبي r كلها خطأ وغير صحيحة.
كان عندنا في الكلية بروفيسور في التاريخ معلوماته الدينية ضعيفة جداً وأمه أو أبوه علوي وليس لديه من آداب السلوك أوالتقوى شيء كما أن نمط حياته غير مستقيم, قال هذا الرجل: (لقد كتبت الكثير من الأحاديث لكنهم يقولون أن الصحيح منها 18 حديثاً تقريبا) مع أن هذا الرجل ليس بعالم حديث ولا يفهم به ولا يعرف العربية, ولديه أخطاء في مجاله أعرفها وقلت له عليها, فرد عليه أستاذ الفلسفة الأستاذ سليمان خيري بولياتشوك قائلاً: أين الإنصاف؟! لقد كانت نبوة سيدنا محمد r 23 سنة , ألم يقل سوى 18 حديثا خلال هذه السنوات, ألم يروى عنه سوى 18 حديث طول هذه الفترة؟.
إن الرجل الذي اشتهرت نبوته وانتشر ذكره وأمره في الآفاق, والذي تم الحفاظ على جبته ونعله وشعره, والذي كان إذا حلق شعره تخاطفته الصحابة ليحتفظوا به كذكرى منه r , والذي حفظ صحابته الذين كانوا بالآلاف كل تفاصيل حياته , والذي أمرنا القرآن باتباع أمره, ألم يروى عنه إلا 18 حديثاً؟! هذا ظلم كبير وعدم إنصاف.
من أين نشأ هذا ؟
لأن الحديث الشريف من أهم أساسات الإسلام فالعمل الأساسي لأعداء الإسلام من المستشرقين وغير المسلمين هو مهاجمة الحديث الشريف, ولإيضاح هذا سأحدثكم بهاتين الفقرتين وهذا يشبه اللقاح قليلاً , سأحدثكم لكي يكون لكم هذا كاللقاح كي لا يصيبكم هذا المرض.
أعداء الإسلام يتبعون خطة معينة في حربهم مع المسلمين, فهم يحاولون دائماً تكثيف الهجوم على الحديث الشريف لأنه القلب وهذا هو هدفهم الأكبر .
ففي كل الجهود التي قام بها أعداء الإسلام لإضلال المسلمين وإفسادهم وخداعهم وحتى إخراجهم من دينهم كانوا يجدون السنة في وجوههم كحائط فولاذي لم يستطيعوا خرقه أو هدمه ولن يستطيعوا, لأن السنة تم نقلها وتدوينها على أدق وأكمل وجه, فهي حائط فولاذي لا يمكن خرقه ولا هدمه.
ومما يزعج الفساق والفجار ويقيدهم أن السنة لم تترك لهم أي عذر في عدم تطبيق الأوامر الدينية
فبعض الناس لا يعيش حياة إسلامية ولا يترك غيره يعيش حياة إسلامية ولا يقول: (اعذروني أنا لا أستطيع أن أعيش حياة إسلامية) بل يقول (أنا مسلم) ويحاول الإثبات أن طريقة حياته المعوجة ليست مخالفة للإسلام , أو يظن أنه على الطريق الصحيح وغيره على الطريق الخطأ, لكن الذي يعيقهم ويقيدهم هو الحديث الشريف والسنة المطهرة.
بعضهم يريد أن يحدث نهضة في الدين فيقول: (البيرة جائزة, والربا جائز) لكنهم عندما يقال لهم : (إن الإسلام حرم هذا, وهذا بديهي واضح لا شبهة فيه) يحاولون منع هذا بمهاجمة الحديث بشراسة ومحاولة هدمه وتشويهه, فعندها يفعلون ما يحلو لهم بكل راحة, لكن هذا يشبه نباح الكلاب أثناء سير القافلة, فالكلب ينبح والقافلة تسير.
لماذا هذا العلم مهم لهذه الدرجة بالنسبة لنا في هذا العصر؟
بالطبع وقبل كل شيء نحن مسلمون مؤمنون ومرادنا هو رضا الله تعالى, ومعرفة السنة النبوية المطهرة وديننا الحنيف وتطبيقه وسيلة للفوز برضا الله سبحانه وتعالى, ومن هذه الناحية فكما أن الحديث الشريف كان مهما ً بالنسبة للصحابة الكرام فهو مهم أيضاً بالنسبة لنا, وكما أنه كان مهماً للمؤمنين في العصور السابقة مهم أيضاً في هذا العصر وفي العصور القادمة.
أسأل الله أن يثبتنا على طريق سيدنا محمد r , وأن يجعلنا من أصحاب السنة إنه سميع قريب مجيب.
رضي الله عنكم أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات:
*محاضرة انجلترا بتاريخ 15.7.1995
1) الأنفال 8\20.
2) الأحزاب 33\36.
3) النساء 4\64.
4) النساء 4\65.
5) النساء 4\69.
6) النجم 53\3-4.
7) الحاقة 69\44-46.
8) آل عمران 3\31.
9) الأعراف 7\148.
مقالة
“أهمية السُّنَّة”
البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان