الولي حجي بكتاشي والبكتاشية 2*
بالنتيجة يمكن لنا القول بأن حجي بكتاش المرشد والأخلاقيّ هو من بين الشخصيات الكبيرة التي وضعت الأساسات المعنوية للإمبراطورية العثمانية العظيمة، وفي حين كان مولانا كاتب المثقفين، ومنبع فيض الصّنّاع فقد قام هو (حجي بكتاش) بتبيين الطريق بوصفه زعيم المحاربين، ومرشد الشجعان، ومنحَهُم التوجيه والحماس، وفتح البلدان والأمصار من جهة، وتوجه نحو الشعب كما رأينا ذلك في شخص يونس، وقام بخدمة المعرفة الشعبية بشكل مباشر، واللغة والأدب التركيّين بصورة غير مباشرة، وعاش في قلب الملايين لعُصورٍ من جهة أخرى.
البروفيسور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)
أُنشئت مدينة قرشهير في وادٍ جميلٍ كثير الماء يقع في السهول المرتفعة وسط الأناضول، وقد كانت هذه المدينة وضواحيها أحد المراكز المهمّة للثقافة التركية خاصة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ أي في مرحلة انهيار دولة سلاجقة الأناضول، وعصر الحكم الإلخاني.
وقد خرّجت قرشهير كثيراً من الأشخاص الذين سُجِّلت أسماؤهم في التاريخ أمثال شيخ أهل الفتوة أخي أوران، وفاتح إزمير جاغا باي، وصهر عثمان غازي الشيخ أدب علي، وشعراء ومتصوفين كبار مثل كلشهري، وعاشق باشا.
كما كانت مركزاً لمؤسّستي الفتوة والآخيّة صاحبتَيْ الموقع المهمِّ جدّاً في تأسيس الدولة العثمانية.
وفيها أيضاً استقرت البابائية التي تورّطت في أحداث سياسية مهمّة جدّاً في المرحلة السلجوقية.
في هذه البيئة عاش حجي بكتاش شيخ الإنكشارية، وهنا نبتت البكتاشية التي استمرّت على امتداد العصور إلى أيامنا هذه.
ما زالت مواضيع حجي بكتاش والبكتاشية إلى الآن تحظى باهتمام واسع داخل تركيا وخارجها([1])، ويمكن مشاهدة نماذج حيّة لهذا الارتباط في الولايات المختلفة من الوطن في الاجتماعات الموسيقية للعلوية البكتاشية التي أُقيمت في أزمان مختلفة، وفي أخبار ومقالات وتقارير ومتفرّقات الجرائد والمجلات، وفي المراسم التذكارية التي تُقام كل سنة بين السادس عشر والثامن عشر من أغسطس في بلدة حجي بكتاش التي تتبع اليوم لولاية نوشهير.
وخاصة هذه المراسم سالفة الذكر التي يحضُرها بعض رجال السياسة، وجنرالات برُتبٍ عالية، ومنسوبو جامعاتٍ، ونحوهم من المثقفين حيث يقوم الشعراء الشعبيون والجوقات الموسيقية وفِرقُ الفلكلور بتقديم عُروضٍ، وتُذبحُ مئات القرابين في بير أوي (pirevi) الذي يجتمع فيه آلاف الزّوار.
يا تُرى كيف حصل الظهور التاريخي لهذه الطريقة المشهورة التي تتميّز بتعلّقها بكثير من المسائل الاجتماعية والثقافية والدينية بنفس قدر تعلّقها بالتاريخ السياسي التركي؟ من هو حجي بكتاش وما هي أفكاره؟
حياة حجي بكتاش
ظهرت حول شخصيّة حجي بكتاش وقائع خارقة، ومناقبُ مليئة بالكرامات كما هو الحال مع أيّ وليّ، لكن تظلّ غربلة الحقائق التاريخية من بينها من الصعوبة بمكان بسبب نُدرة الوثائق المُثبتة.
كان حجي بكتاش موضوع بحث كُتُب (مناقب نامه) التي أُلِّفت لأشخاصٍ ورَدَ ذِكرُهم في عنعنة (سلسلة) البكتاشية أمثال حاجم سلطان، وصاري صلطوق، وسيد علي سلطان، وأبدال موسى.
وقد قام موسى بن علي المعروف بـ"سفلي درويش" في سنة 844/1440 بجمع روايات حجي بكتاش الشفوية، وحوّلها إلى ولايت نامةٍ منثورة، هذا الأثر الذي يُعرف أيضاً باسم مناقب نامه حجي بكتاش ولي تمّ نظمه على يد بورصلي فردوسي طويل رومي في نهاية القرن الخامس عشر، وقد طُبع مرات عديدة في تركيا وأوروبا([2]).
ينحدر حجي بكتاش حسب هذه المناقب نامه من سلالة موسى الكاظم الإمام السابع في سلالة سيدنا علي رضي الله عنه، وبناءً على أمرٍ من المشهور أحمد يسوي نيسابوري المولد وخراساني المنشأ، جاء حجي بكتاش إلى الأناضول، واستقرّ بصولوجا قره هيوك الواقعة على بعد 40 كيلومتراً جنوب قرشهير بعد أن زار المدن المقدّسة مثل مكة والمدينة والنجف والشام والقدس وحلب، والتقى بالسلطان السلجوقي علاء الدين قيقوباد، ومولانا جلال الدين، وعثمان غازي، وأخي أوران، وطبطوق أمره، وصاري صلطوق... وربّى الكثير من الدراويش، وأرسل 360 خليفةً بوظيفة الإرشاد إلى بلدانٍ مختلفة.
أما فيما يتعلق بالحقائق التاريخية فبما أن القيودات الوقفية يُفهمُ منها قطعًا أنّه تُوفّي في أواخر القرن الثالث عشر فإننا يمكن أن نقدِّر أنّه عاش بين عامي 606-669/1209-1270 وهو التاريخ الذي وُفِّق عبد الباقي كل بينارلي في تحديده من خلال ثلاث مخطوطاتٍ([3]).
تُضاف إلى اسم حجي بكتاش صفة "الخراساني" أيضاً، وهي نسبةٌ نجد أن مئات الأشخاص في الأناضول يتصفون بها في ذلك العصر مثل بابا إلياس الخراساني جدّ عاشق باشا، وحجّي إسماعيل الخراساني الذي ينتسب إليه يونس إمره، وهذه الكلمة تُفيد الانتساب إلى ملامتية خراسان التي تنزع إلى البعد عن التباهي، وتبني طريق العشق والجذب للوصول إلى الإله، وكانت تُستعمل في التصوّف كمُقابلٍ لصفة "عراقي"([4]).
وأفكار حجي بكتاش التي في مؤلّفاته هي بالفعل أفكار تعود إلى طريق العشق والجذب هذا الذي في التصوف، وبالنظر إلى أنه وُلد في نيسابور مهد الملامتية فإن هذا الأمر يبدو طبيعياً للغاية.
تُبيِّنُ كثرة "دراويش خراسان" في الأناضول أنّ حجي بكتاش لم يكن وحده، وإنّما كان له العديد من أهل البلد والوطن، كما أن الأفلاكي في كتابه مناقب العارفين (أُلِّف في 1318) يذكُره بوصفه خليفة خاصًّا للقائد البابائي بابا إسحاق المعروف بـ"بابا رسول"([5]).
إن تحديد ماهيات البابائية والبابائيين شرط أساسي لفهم شخصية حجي بكتاش وأفكاره بشكل جيد، حيث خاضت المجموعات التركمانية الكبرى صراعات سياسية تتخللها فترات من الفتور بقيادة الشيخ البابائي وخلفائه منذ سنة 637/1239 إلى حين قيام بيكوية القرمانيين، وتُوصفُ هذه الصراعات بأنها مقاومة من طرف القومية التركية ضد التأثيرات غير القومية، وضد الظلم والقمع([6]).
فجدُّ عاشق باشا مثلاً إلى جانب كونه أحد قادة البابائيين، صاحبُ اعتقاداتٍ سنّية زُهديّة، ورؤيتُه للصراع على أنه ناشئ عن اعتقادات جماعةٍ شيعية باطنية، وتقديمُهُ له على أنّه كذلك يدفعُنا إلى الاحتياط([7]).
مؤلفات حجي بكتاش
لقد بقيت بعض مؤلفات حجي بكتاش موجودة إلى يومنا هذا، ومن بينها تفسير سورة الفاتحة الذي قيل: إنه موجود في تيره، لكننا لم نعثر عليه هناك مع الأسف([8]).
بالرغم من رصدنا لأشعار تحمل اسم "حجي بكتاش" في بعض الدواوين ومجموعات الشعر([9]) إلا أنها تعود إلى حجي بكتاشٍ آخر عاش في وقت متأخر جدّاً كما هو مفهوم على سبيل القطع من الخصائص اللغوية لتلك الأشعار.
تمّ تناوُلُ شخصيّة حجي بكتاشي بالشرح في شكل كتاب من 135 صفحة ومُزيّن بأشعارٍ في مواضع منهُ اسمه تحفة السالكين ألَّفه كاتب حروفيّ ونقشبنديّ اسمُه أنوري في سنة 1091/1680([10]).
يبدو أنه إذا وضعنا ما تقدَّمَ جانباً لم يبقَ بين أيدينا سوى كتاب واحد فقط هو المقالات نستطيع من خلاله معرفة أفكار حجي بكتاش.
المقالات هو كتاب صغير الحجم (حوالي 30 ورقة) اُلّف في الأصل باللغة العربية، ثم تُرجم في وقت لاحق إلى اللغة التركية، ولم يصل إلينا إلى الآن أصله الذي بالعربية لكننا عثرنا في مجموعةٍ على مخطوط القسم الذي يتحدث عن الأربعين مقاماً منهُ.
هناك العديد من النُّسخ لترجمته المنثورة. وقد طُبع في إسطنبول مرتين بالحروف القديمة (إحداهما بلا تاريخ، والأخرى بتاريخ 1288/1871) ومرّة بالحروف الجديدة([11]).
لا يُعرف من قام بالترجمة، وبالرغم من الاعتقاد السائد بأنها تعود لسعيد أمره إلا أن المفترض أن ذلك غير صحيح؛ لأن المترجم يتحدث في المتن على أنه شخص ثالث غير سعيد أمره.
وقد نُظِمت الترجمة المنثورة على يد مدرّس حديثٍ اسمه تاج الدين خطيب أوغلو في سنة 812/1409 بإزنيك، وأُهدِيَ النظم إلى المشهور جندرلي خليل باي الثاني الذي كان أجداده من الآخية([12]).
أفكار حجي بكتاش
إن أكثر المصادر أهمية فيما يتعلق بفهم أفكار حجي بكتاش وشخصيته هي بلا شكّ مؤلّفاته، فالمقالات تعطينا معلومات قيّمة حول هذا الموضوع.
يظهر لنا حجي بكتاش في المقالات في هويّة متصوّف ناضج، وهذه هي الأقسام الثمانية للكتاب:
1 - أربعة مجموعات من الناس؛ رغباتهم وأساليب عبادتهم.
2 - مقامات الشريعة العشرة.
3 - مقامات الطريقة العشرة.
4 - مقامات المعرفة العشرة.
5 - مقامات الحقيقة العشرة.
6 - ماهية القلب وأحواله.
7 - الشيطان والطباع السيّئة التي تُساعدُه.
8 - أسلوبُ خلق الإنسان وقيمتُه.
يُقسّم حجي بكتاشي المسلمين إلى أربع مجموعات:
1 – أهل الشريعة العابدون.
2 – أهل الطريقة الزاهدون.
3 – أهل المعرفة العارفون.
4 – أهل الحقيقة المحبّون أي العُشّاق.
الشريعة باب رفيعٌ؛ لأنها تبين إن كانت الأشياء حلالاً أو حراماً، ونظيفة أو وسخة، ويجب القيام مطلقاً بما أمر الله تعالى به في القرآن، واجتناب ما نهى عنه، لكن الانسان لا يكفيه نيلُ معلومات الشريعة وحدها.
أما أهل الطريقة فيذكرون الإله ليلاً نهاراً، يستعدّون للآخرة، ولكنّهم إذا كبُرت الحسنات التي يقومون بها في أعينهم، واغترّوا بها، فإنهم لا يمكن أن ينضجوا.
وأهل المعرفة العارفون مثل الماء: طاهر ومُطهّرٌ في الوقت ذاته، وهم محبوبون من الله؛ لأنهم يُرَاعون الأدب، ويريدون الإله فقط دون تفكير في المنافع الدنيوية والأخروية.
وأما أهل الحقيقة المُحبّون فهم أنضجُ الناس، وأعلاهُم مرتبة، صاروا أصحاب تواضع ورضًى وتسليمٍ، وألغوا شخصيّاتهِم، ووصلوا إلى الإله، ووصلوا إلى مقام المناجاة، والمشاهدة الدائمة، فصاروا عُشاقاً للإله، وأشخاصاً مقدّسين.
هذه "الأبواب الأربعة" التي تتالى للوصول إلى هذه المرتبة الأخيرة ـ أي: الشريعة، والطريقة، والمعرفة، والحقيقة ـ يوجد في كل واحد منها عشر مقامات بحيث يكون مجموعها أربعين مقاماً.
والعبد إذا لم يمُرّ من هذه المراتب الأربعين واحدة واحدة دون أن يتجاوز أحدها فإنه لا يمكن أن يصل إلى الإله أبداً، مثلاً إذا آمن شخصٌ بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، أو لم يخرج عُشرَه وزكاته على التمام، أو كان ذاهباً إلى الحجّ فرجع من الطريق، أو اعتبر أحد أحكام الإله باطلةً، أو لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لم يؤمن بأحد صحابته، فإن جميع أعماله التي قام بها تذهب هباءً (ص 58).
إن العناصر الرحمانية والشيطانية في حالة حرب دائمة في داخلنا، سلطان الجبهة الرحمانية هو العقل، ونائبه الإيمان، وقادتُهُ العلم، والكرم، والحياء، والصبر، واجتناب الذنوب، وخوف الإله، والأدب، ونحوها من الأوصاف الإيجابية، ولكل واحد منهم مئات الآلاف من العساكر.
وسلطان الجبهة الشيطانية هو إبليس، ونائبه النفس، وقادتُه الطِّباعُ السيّئة مثل الكبر، والحسد، والبخل، والطمع، والغضب، والنميمة، والنفاق، والقهقهة، ولهؤلاء أيضاً مئات الآلاف من العساكر.
من دون معرفة الطباع الإيجابية والسلبية لن يكون من السهل هزيمة جبهة الشر، لهذا السبب يُصِرّ حجي بكتاش على تلقين الإنسان أن يصرف أنظاره إلى عالمه الداخليّ، ويسعى إلى معرفة ذاته، ويُبيّن أن من لا يعرفون أنفسهم لن يعرفوا الإله؛ لأن الإله أقرب إلى الإنسان من عصب الروح، ولأنه يولي أهميّة بالغةً لهذا الموضوع فقد وقف عند بدنِ الإنسان في أحد أقسام الكتاب، وأشار إلى التشابه اللامحدود بين البدن وبين العالم الخارجي والكائنات.
إن أكثر ما يحزَنُ له حجي بكتاش هو الرياء، والتضادُّ في التصرّفات:
"أيها المسكين! لقد احتار الإيمان داخلك، تقول: إنك آمنت بالإله، ولا تلتزم بأوامره، تقول: إنك آمنت بالملائكة، وترتكب عندما تكون بمفردك القبائحَ التي لا تفعلها أمام الناس خجلًا منهم، في حين أن في بدنك 360 ملكًا مُكلَّفًا، تقول بأنك آمنت بالقرآن، وفي قلبك توجد أنواعٌ من السيّئات.
أيُّ كتابٍ يُدوّنُ قيامك بتلك الأفعال؟ حتّى عباد الله الأولياء لا يمكن أن يكونوا على ثقةٍ من أحوالهم مع أنهم يجوعون يوماً، ويشبعون يوماً، ويقومون بالعبادة ليلاً ونهاراً.
أتظُنّ أنّ ما قمتَ به لن يُرمى على وجهك؟
إذا كان بداخلك مشاعر سيئة فإنه لا فائدة من تنظيفك لظاهرك؛ لأنك إذا وضعت خمرًا في قارورة، وأحكمت إغلاق فمها، ثم غسلت ظاهرها ألف مرّة في اليوم لمدة عشر سنوات فإن ما بداخلها سيظلّ خمرًا قذرًا، بل إننا لو فرضنا أن قطرة من الخمر قُطِرت في بئرٍ ثم أُخرِج جميع مائِه، فنبت عشبٌ في المكان الذي صُبَّ فيه الماء، وانسكب ثم جاء خروف وأكل منه، فإنّ أهل التقوى يعتبرون حتى لحم ذلك الخروف حرامًا؛ لأن الخمر هي إحدى آلات الشر للشيطان.
حينها يَا لَعَارِكَ! مَن كان في داخله الكبر، والحسد، والبخل، والطمع، والغضب، والغيبة، والقهقهة، والنفاق كيف يمكن أن تغتسل بالماء فتطهُر، وبداخلك مثل هذه الأفعال الشيطانية؟"([13]).
تبدو لنا هذه الفقرة سالفة الذكر عجيبة جدّاً من حيث تعارضها معنويّاً مع الطريقة البكتاشية الكلاسيكية التي كانت متسامحة في موضوع الخمر لعصورٍ متعاقبة، يُفهم من خلال ذلك أن حجي بكتاش كباقي علماء الشريعة شديد المُعارضة للخمر التي تؤدي بالإنسان إلى حالةٍ من عدم السيطرة، وتسمح باقترافه للسيّئات([14]).
بمناسبة حديثنا عن أفكار حجي بكتاش سيكون من المناسب أن يُصحَّحَ خطأٌ كثيراً ما يتردّد ذكرهُ:
يقول فؤاد كوبرلي بأن: "حجي بكتاش يميل إلى الشيعة الاثني عشرية بسبب إقراره بالأئمة الاثني عشر، وتوصيته بالتولّي والبراء"، مستندًا في ذلك إلى بعض الأبيات التي في نسخة مديرية الأمن العامة لترجمة نظم المقالات([15]).
هذا الادعاء يظل بلا سندٍ؛ لأن هذه الأبيات غير موجودة في نسخةٍ كاملة وأقدم لهذا المتن، وإنما أُضيفت في وقت لاحق، والأهم من ذلك أنها (الأبيات) غير موجودة داخل المتن، وإنما في المقدّمة التي تعود للمترجم خطيب أوغلو.
كما أن تأليف الكتاب الأصلي باللغة العربية مراعاةً للأصول التي درج عليها العلماء في ذلك العصر يدلّ على محافظة حجي بكتاش.
تأثير حجي بكتاش
يقول الأفلاكي نديم أولو عارف جلبي (توفي: 761/1360) حفيد مولانا: بأن حجي بكتاش صاحب عرفان، وأنه شخصٌ ظاهره وداخله مُنوّران، وأنه أرسل خليفةً له اسمه الشيخ إسحاق مع بعض دراويشه كرسولٍ إلى مولانا.
هذا الأمر يُظهر اهتمام حجي بكتاش أحد أهم البابائيين بالتربية المعنوية لمن هُم حوله، وأنّ له العديد من الدراويش المخلصين له، وأن ما كُتب حول هذا الموضوع في ولايت نامه حتى وإن كان فيه مبالغة ليس بلا أساس من الصحة تماماً.
لذا فإننا لا يمكن أن نقبل الادعاءات التي ظهرت قديماً([16]) والتي تظهر في بعض الكتابات المعاصرة([17]) من قبيل أنه كان "مجذوبا إلهياً" بسبب المشيخة والزُّهد (الدروشة)، كما أن هذا الادّعاء يتعارض مع كون حجي بكتاش قد ألّف مؤَلَّفاً حول التصوّف والطريقة والزّهد (الدروشة).
يمكن رصد أفكار حجي بكتاش التي ذكرنا ملخّصها في القسم السابق بالضبط في أشعار الشاعر التركي الكبير يونس إمره (ت 1320)، وفي مؤلَّفِه الرسالة النُّصحيّة، فهو أيضاً يتحدّث عن الأربعين مقاماً، والأربعة أبواب، ومرتبة المناجاة، والمشاهدة، والصراع بين القُوى الرحمانية والشيطانية داخلنا، وسُلطان كلا الطرفين، وقادتِه وعساكره، والطباع الخيّرة والسيّئة ونحوها([18]) بحيث إن كل ذلك يُثبت وجود ارتباط قوي مباشراً كان أم عبر واسطة بين حجي بكتاش ويونس إمره بالرغم من وجود من يتبنّون موقفاً عكسياً بسبب اعتقادهم أن حجي بكتاش شيعي فاسد العقيدة([19]).
كما أننا نرى هذه النظرية في المؤلفات التي تعود إلى عاشق باشا (1272-1333)، وفي أشعار سعيد إمره المعاصر له، ونرى تناوُلًا للمصطلحات والأفكار، ونرى في الثانية ذكرًا لحجي بكتاش باحترامٍ([20]).
لا نستطيع مع الأسف أن نُحدّد مَن الذين شَغَلوا مقام حجي بكتاش من بعده على سبيل القطع، ومن المعلوم لدينا أن الطريقة كانت في المراحل الأولى مرتبطة بالآخية، وبتنظيم الفتوّة، والملامتية التي في خراسان اختلطت أصلًا مع أهل الفتوة منذ نشأتها، وسلَك كثير من المتصوّفة الطريقين معًا.
هذا القرب المذكور تمّ استنتاجه من خلال اقتباس البكتاشية لمراسم دخول الطريقة، وطقوس تقبيل عتبة الباب، وربط الحزام، والشرب المشترك من نفس الكأس، والتفصيلات المتعلقة باللباس، والأوراد التي تُقرأ في المراسم بشكل كامل من الآخية([21]).
قسم كبير من محبي حجي بكتاش الأوائل اتّبعُوا وفود المجموعات التركمانية بوصفهم آخيّة ومحاربين، وانتشروا غرب الأناضول، هؤلاء التحقوا بالفتوحات العثمانية، وأسسوا مراكز استقرار في المناطق الرومية، وفي البلقان، وقاموا بتتريك أهلها، وهذا هو السبب في قوّة الطريقة البكتاشية في الجُزر (جزر إسطنبول)، والمناطق الرومية، وألبانيا، ونحوها.
ومع كل ذلك أدّى فتح هذا الانتشار الباب أمام تشتت فكريّ وعمليّ بسبب عدم وجود أدبيات قوية للطريقة، وعدم تحديد المعتقدات، وعدم تأسيس تنظيم مركزي.
ومع الوقت ظهرت مجموعات مُتّهمَةٌ مثل الحيدرية، والقلندرية، والحروفية، والأدهمية في هذه الطريقة الصافية والمحبوبة، وحصل تمازج مع بقية الثقافات والأديان، وحصلت تأثيراتٌ بفعل الوافدين، وظهرت منذ القرن السادس عشر دعاية إيرانية كثيفة قادمة من الشرق، فأدّى كلّ ذلك إلى ظهور طريقة بكتاشيّةٍ مغلقة ومظلمة، ومتعدّدة الأجناس تُؤوي تحت سقفها أنواعًا مختلفة من الناس من المُتشرّع إلى الملحد.
يُشير الباحثون بشكل خاص إلى هذه المسألة وينبهون باهتمامٍ إلى الفرق العميق بين دراويش العصر الأول الحيويّين والبنّائين والصافين وكثيري الفائدة، وبين الفئات اللاحقة التي فقدت تلك الوظيفة، وابتعدت عن الغاية والمثال([22]).
بالنتيجة يمكن لنا القول بأن حجي بكتاش المرشد والأخلاقيّ هو من بين الشخصيات الكبيرة التي وضعت الأساسات المعنوية للإمبراطورية العثمانية العظيمة، وفي حين كان مولانا كاتب المثقفين، ومنبع فيض الصّنّاع فقد قام هو (حجي بكتاش) بتبيين الطريق بوصفه زعيم المحاربين، ومرشد الشجعان، ومنحَهُم التوجيه والحماس، وفتح البلدان والأمصار من جهة، وتوجه نحو الشعب كما رأينا ذلك في شخص يونس، وقام بخدمة المعرفة الشعبية بشكل مباشر، واللغة والأدب التركيّين بصورة غير مباشرة، وعاش في قلب الملايين لعُصورٍ من جهة أخرى.
* مقالات أكاديمية، اسطنبول،. Akademik MakalelerServer İletişim، 2017، (ص: 176، 167).
([1]) يوجد في بلادنا 450000 بكتاشي إلى الآن حسب ما أفاد أبٌ بكتاشي على قيد الحياة. انظر: Sertoğlu, Bektâşîlik, ص:304. إلى جانب هؤلاء يُكنُّ علوية القرية حُبّاً وارتباطاً لحجي بكتاش، وهم يشكلون مجموعات حشودٍ مختلفة بينهم قرابة مع البكتاشية باعتبار العنعنة والتنظيم ومراسم العين.
([2]) Gross, Das Vilayetnâme des Haggi Bektash, Leipzig 1927; Gölpınarlı, Menakıb-i Hünkâr Hacı Bektâş-ı Veli “Vilâyetnâme”, İstanbul 1958. 1301/1884’de manzum nüshanın dilini eski bulan Ali Nihânî b. el-Hâc Mehmed Tevfîk el-Yozgâdî eseri ikinci defa nazma çekmiştir. Nüshası için bk. Ankara İl Halk Kütüphanesi, Eski Eserler Bölümü, nr. 1750.
([3]) انظر: Gölpınarlı, Vilâyetnâme, s. 19-20; Birge, The Bektashi Order of Dervishes, s. 40-41.. هذا الأثر رسالة دكتوراه تم إعداده بالاستفادة من مخطوطات نادرة، ومن جميع المصادر التي أُلِّفت في الشرق وفي الغرب إلى عصر المؤلف، بالإضافة إلى احتوائه على بيبليوغرافيا مفصّلة حول الموضوع، لكن المعلومات فيه أصبحت قديمة، تم تجديد نسخته في 1965.
([4]) Gölpınarlı, 100 Soruda Tasavvuf, s. 123
([5]) حول الترجمة التركية، انظر: Ahmed Eflâkî, Ariflerin Menkıbeleri, I, 411-414.
([6]) انظر: Ahmed Eflâkî, Ariflerin Menkıbeleri, I, 411-414.
([7]) انظر: Köprülü, ”Âşık Paşa”, İslâm Ansiklopedisi, I, 701-706; Gölpınarlı, Yûnus Emre ve Tasavvuf, s. 295-346.
([8]) انظر: Köprülü, Les Origines du Bektachisme, ayrı basım, Paris 1926. (Tercümesi: Türk Yurdu, II. nr. 8 Mayıs 1341.). حسب القناعة التي توصل إليها عبد الباقي كول بينارلي فإن الكتاب الفارسي المسمى (فوائد) الموجود في مكتبة جامعة إسطنبول، وكتاب (مقالات غيبية وكلمات عينية) الذي لا يُعرف مكان نسخته هما كتابات موضوعان ألَّفهُما شخص واحد، وأُضيفا إلى حجي بكتاش.
([9]) انظر مثلاً: Rieu, Catalogue of the Turkish Manuscripts in the British Museum, s. 261
([10]) “Bektâş, Hacı Bektâş-ı Velî”, Türk Ansiklopedisi, VI, 32-34; Gölpınarlı, Yûnus Emre Hayatı, s. 302. (بالرغم من أن الكاتب قال في مؤلَّفه: بأن شرحاً للأربعين حديثاً يعود لحجي بكتاش موجود في مكتبته الخاصة إلا أنه لم يكرّر ذلك).
([11]) Sefer Aytekin, Hacı Bektâş-ı Velî Makâlât, Ankara 1954
([12]) آخر المعلومات حول موضوع المقالات وترجماته موجودة في رسالتنا للدكتوراه المطبوعة تحت عنوان خطيب أوغلو محمد ومؤلفاته، التي قدمناها لكلية الإلهيات بجامعة أنقرة سنة 1965 (ص: 30-29).
([13]) حول نسخة المقالات التي تعود لـ 1424، انظر: Manisa Kütüphanesi, nr. 3536
([14]) ملاحظة: في طبعة سفر أيتكين للـمقالات تم تحريف النصّ عن قصدٍ، وأُبدلت كلمة خمر بـ"وسخ".
([15]) انظر: Köprülüzâde, “Anadolu’da İslâmiyet”, Darülfünun Edebiyat Fakültesi Mecmuası, sy. 4-6 (1922), s. 87
([16]) Âşıkpaşazâde, Tevârîh-i Âl-i Osmân, s. 204-206
([17]) انظر: Köprülü, Türk Edebiyatında İlk Mutasavvıflar, s. 94-95
([18]) Krş. Gölpınarlı, Yûnus emre ve Tasavvuf, s. 121-126, 171
([19]) انظر: Tekindağ, “Büyük Türk Mutasavvıfı Yûnus Emre Hakkında Araştırmalar”, TTK Belleten, XXX (Ocak 1966), sy. 117, s. 59-90
([20]) Gölpınarlı, Yûnus Emre ve Tasavvuf, s. 280-294
([21]) انظر: Gölpınarlı, “İslâm-Türk İllerinde Fütüvvet Teşkilatı ve Kaynakları”, İstanbul Üniversitesi İktisat Fakültesi Mecmuası, XI, s. 6-354; Çağatay, “Fütüvvet-Ahî Müessesesinin Menşei Meselesi”, Ankara Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi, sy. 1 (İstanbul 1952), s. 59-68; sy. 2 (Ankara 1952), s. 61-84
([22]) انظر: Barkan, “İstila Devirlerinin Kolonizatör Türk Dervişleri ve Zaviyeler”, Vakıflar Dergisi, II (1942), s. 279-386 (في هذه المقالة كبيرة الأهمية تمت الاستفادة بشكل موسّع من وثائق أرشيف رئاسة الوكالة).
مقالة
“Hacı Bektâş-ı Velî ve Bektâşîlik 2”
Prof. Dr. M. Es'ad Coşan (Rh.a.)