البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإحسانه في الدنيا والآخرة.
وأُصلّي وأُسلّم بلا نهاية على عبده المختار محمد المصطفى الحبيب الأديب صلى الله عليه وسلم.
أريد الوقوف على موضوع عظيم، ومهم ورائع وحيويّ جداً، هو موضوع الاعتقاد بشكل عام، وعلى دين الإسلام أفضل المعتقدات، وخصائصه وأوامره، وما الذي يجب علينا فعله كمسلمين؟
فموضوع الدين هو أهمّ المواضيع؛ لأن المواضيع الأخرى كلها متعلقة بالدنيا فقط، بل بقسم من أقسامها كالطبيعة والصحة، وما شابه ذلك، لكن الدين متعلق بالدنيا والآخرة.
صحيحٌ أن الأرض صغيرة، لكن الفضاء لا نهائيٌّ، ولا طرف له، ولا غاية، وبينهما فرق كبير لا نهاية له، وكذلك الدنيا بالنسبة للآخرة، بهذا الاعتبار فإن المسألة التي تُعنى بآخرة الإنسان هي بلا شك أكبر المسائل، فهي تُثير الاهتمام بمستقبل كبير لا نهاية له.
هذا الموضوع هو موضوع الإنسانية المشترك، ونعلم من خلال علم تاريخ الأديان أنه قد تكوَّن في كل مجتمع نظامٌ ديني معين، وأن هناك أدياناً يمكن تصنيفُها بأشكال متعددة.
يمكن أن نعتمد أولاً هذا التقسيم الكبير والمُحقّ:
- الأديان الإلهية.
- الأديان غير الإلهية.
عندما تُبحث هذه العقائد نجدُ أن الناس قد آمنوا وعلّقوا قلوبهم بأشياء مختلفة جداً، وأنّ لهم مُعتقدات تبدوا لإنسان القرن العشرين غريبة جداً.
فثمَّة مَن عبدوا الثور، قد يبدو لنا هذا سخيفاً، ونضحك منه، لكن المصريين كانوا يعبدونه، والهنود إلى الآن يعبدونه.
وعبدوا الشمس، عبدها الفرس قديماً، ويعبدها اليابانيون إلى الآن، فاليابانيون الذين تقدموا في التقنية كثيراً يزعمون أن الإمبراطور ابنُ الشمس، لا ندري أنضحك، أم نبكي، أم نشفق لحالهم، أم نتأسف عليهم؟ فالإنسان يتعجّب باسم الإنسانية والعلم والتقنية والقرن العشرين.
سبق أن شاهدت في التلفاز من يعبد أفاعي الكوبرا، ويتخذ لها معابد، على طرفي باب المعبد توجد أفاعي كوبرا، وقد نفخت أوداجها، يجمعون أفاعي الكوبرا من الحقول، ثم يعبدونها، وفي كل سنة يموت آلاف الناس بلدغات هذه الأفاعي.
حتى الجهاز التناسلي عبدوه في الهند، إلى جانب ذلك هناك من يُؤلّهون أبطالهم، ويعبدون الشجر الذي عملته أيديهم، والحجر، والجبال، والنجوم المختلفة.
يعني ذلك أن في كل مجتمع نظاماً عقَدياً، والمهم هو ماهية هذا المُعتقد، المهم هو نوعيته وصفته؛ إذ لا نستطيع أن نقول بأن "لهم اعتقاداً جيّداً، هم يعتقدون بشكل حسن"، فنوع العقيدة مهم جداً. وهكذا في كل شيء...
إنسان القرن العشرين يحب العقل، ويُبجّله، ويُعجب به، ويُصفّق له تقديراً، العقل مخلوق محترم، وكل إنسان على وجه الأرض عنده عقل، لكن ليس تصرف كل الناس تصرّفاً حسناً، ولهذا أطلق علماؤنا على العقل المقبول اسم "العقل السليم"، لذلك لا يمكننا أن نعدّ كل عقل مقبولاً، ولا هو كذلك.
وإذا لزم أن نقول ذلك من خلال حكاية جُحا فإنّهُ قال: "أنا من اكتشفت أكل البصل مع اللبن, ولكنني أنا نفسي لم يعجبني"، يعني أن الإنسان قد يكتشف أشياء جديدة, وقد يفعل أشياء عديدة، لكن هل كلّها حسنة، أم لا؟
ثم هناك مسألة الذوق، فنحن نقول بأن "الأذواق والألوان لا تُناقش"، لكن هناك ذوقٌ سليم أيضاً، فمن المؤكّد أن ذوق فنان محترف راشدٍ يختلف عن ذوق طفل صغير في المرحلة الابتدائية، أو إنسانٍ ما زال في مرحلة التّعلّم، هناك الحسّ، والحسّ السّليم، يعني ذلك أن هناك اعتقادا، فجيِّدُ الاعتقاد وجميلُه وسليمُه مُهمّ.
عندما نبحث بدقة في تاريخ الأديان المختلفة، أو حتى في أديان بعض الشعوب التي نُقدِّرها ونحترمها ونغبِطُها مثل الأمريكان والأوروبيين والإنجليز واليابانيين, نرى أنهم في أديانهم غير منطقيين أبداً مع الأسف، وأن لديهم عقائد غريبة، وطفوليّة، ومَعيبَة، ومُستهجنةٍ لا تقبلها أيُّ أُمّة تربّت مثلنا.
عندما كنت في العسكرية دعاني جنرالٌ إلى مكتبه، ولم يعاملني معاملة جنديّ، بل بصفتي حائزاً على درجة الأستاذ المساعد في كلية الإلهيات، وأبدى لي حفاوة لا أستحقُّها، وأجلسني مقابله، وسألني قائلاً: "سيدي، أتساءل كثيراً لماذا دخل الأتراك في دين الإسلام؟".
رأيت حينها أن سعادة الباشا كان متأسفاً، لماذا لا يستطيع أن يفهم لماذا نحن مسلمون، ويأسف لذلك. قال ذلك بمثل هذا الأسلوب، يعني أنه أراد أن يقول: "ماذا لو كُنّا نصارى مثلاً، ما أجمل ذلك! نرى الغرب يشربون الخمر، ودائرة علاقة الرجل بالمرأة وإطارها ومفهومها عندهم واسع إلى أبعد الحدود.."، وكأنه يقول: "أين وجد الأتراك هذا الإسلام؟ أبحثوا وبحثوا ولم يجدوا غيره؟".
فأجبتُهُ: "لم يهتمّ أجدادنا بالإسلام على صورةِ ما يفعل من يتبنّى مُعتقدًا ما صُدفةً بسبب الأوضاع الجغرافية والاجتماعية التي تُقابلُه.
إذاً كيف؟ لقد دخلوا في هذا الدين بعد أن عرفوا وجرّبوا كل الأديان الموجودة في ذلك الزمن، كانوا يعرفون التيبيت، والدالايلامِيّين، والبرهمية، والبوذية، كانوا أيضاً يحكمون الصين، وهم على معرفة بالأديان التي فيها، وكانوا يعرفون الشامانية بوصفها دينًا بقي من أجدادهم.
كانوا قد رأوا النصرانية في شمال بحر الخزر، والبحر الأسود، وفي أيدينا بعض المُتون المسيحية المتبقية من العصور القديمة جداً مثل "Hodeskus-Homanikus"، حيث دخلت بعض القبائل التركية في النصرانية، بل إن الجرائد تتحدث عن أن قبيلة الكاكاووز (Gagavuz) تُعدُّ من بقايا تلك القبائل.
والتُّرك الخزَر دخلوا في اليهودية؛ رأَوا اليهود، وتعرّفوا عليهم فاتّبعوهم، وبعد أن جرّبوا كُلّ هذه الأديان أُعجب رجال الدّولة والشعب بالإسلام بوصفه شكلاً مقبولاً للحُكم فاختاروه؛ لأن الإسلام أفضل دين يتناسب مع الحياة، أفضل دين يحتوي على أحكام صالحة لإدارة الدولة هو الإسلام، أفضل دين ينظم علاقات الناس فيما بينهم داخل المجتمع هو الإسلام، الإسلام هو الدين الذي يسعى لصُنع هيكل المجتمع متمثّلاً في العائلة، وبناء الفرد صحيحَ الجسد، وقويَّ الرّوح بوصفه حجر أساس العائلة.
ومن الطبيعي بما أنه عسكريّ فقد قلت له: "من الناحية العسكرية لا يُمكن أن تجدوا أفضل من دين الإسلام، فالإسلام هو الذي جعل من مهنة العسكرية مهنة مقدسة مباركة، الإسلام هو الذي جعل من الحراسة عبادة، الدين الذي جعل من التضحية بالروح في سبيل الله خلف الحدود لكي يعيش الناس في طمأنينة أمرًا مثاليًّا هو الإسلام، في أي دين ستجدون هذا؟ لا يمكن أن تجدوه، لم يكن لكم أن تجدوه يا سعادة الباشا".
عندما حوّلت حديثنا إلى العسكرية، وقد كان تولّى من قبل قيادة عمليةٍ عسكرية في روما، قال: "صحيح يا سعادة الباشا، أنا كنت في روما، وليس لديهم من موافقة العقل والمنطق أي نصيب".
قدّر الباشا ذلك الأمر كثيراً، وما زال يرسل إليَّ التهاني في الأعياد حتى بعد أن تقاعد، فمن الواضح أنه سُرَّ من جوابي.
وهذه هي حقيقة الأمر، فأجدادنا وأسلافنا لم يختاروا هذا الدين نتيجة أحداث اجتماعية تعرضوا لها، لم يختاروه من مُنطلق "ماذا نفعل؟ يبدو أن هذا هو نصيبنا، فليكن هذا الاعتقاد مُعتقدَنا" كمثل الورقة التي تنحني أمام الريح، بل اشتغلوا بآلة المنطق ومحاكماته، ومصافي المراقبة، والنقد والتفتيش والبحث، ثم ارتبطوا بالإسلام ارتباطاً وثيقاً كعُشّاقٍ أكثر من مجرّد أتباع.
ذهبوا إلى الهند، فرأَوا هناك نحو أربع مائة مذهب، فحكموها وسعوا إلى ردّها جميعها إلى نقطة واحدة، وحكموا إيران، وحكموا بين السنة والشيعة في حل خلافاتهم هناك، فكانوا يواجهون بين الطرفين، ويعقدون مناظرات بينهما حتّى إذا عُرِف صاحب الحقّ منهما اتّبعه الطرف الآخر.
لقد استمسكوا بهذا الدين ببصيرة ونقدٍ وبحث علمي مُستمرّ، فارتبطوا به بحُبٍّ، بلا ريب لا يمكن للإنسان أن يضحي بنفسه في خدمة دينٍ كلّ هذه العصور إذا لم يكن محباً له، ومرتبطاً به، لا يمكن أن يرتبط به إلى هذا الحدّ على الرغم من كثرة الأعداء والضغوطات.
دينُنا يعطينا القواعد الضرورية للحصول على السعادة الأبدية، فالتدين من هذا الجانب هو لمنفعتنا، فالإسلام هو الذي يحثُّ على العناية بصحتنا ونظافتنا بَدْءاً من صحتنا الشخصية، ونظافتنا البدنية، والاغتسال يومياً أو مرة في الأسبوع، وقص الأظافر، وتنظيف الأسنان وصولاً إلى أدق تفاصيل النظافة.
الإسلام هو الذي أَوْلى قداسةً بالغة لعُشِّ الزّوجيّة، وأعطى أهميّة كبرى للأمّ، ونصيباً كبيراً للأب، وجعل في طاعته ثواباً عظيماً، فهو نافع دائماً لسعادة العائلة والفرد والمجتمع، ونظامه وسعادته.
على الرغم من كل هذا لا يجب أن نرتبط بالدين من مُنطلق المنفعة، وبنظرة ماديّة، فنحن لسنا تُجّار آخرةٍ، بل نرتبط به، ونستمسك به؛ لأنه أمر الله تعالى، ولأن أمره تعالى هو الحق.
من خلال المُقاربة الماديّة يكون "الدين مفيداً للنّاس، يحمي صحتهم النفسية والبدنية، إذاً فلندعم هذا الدين، وليكن كل الناس بصحة جيدة، وليستفد المجتمع من هذا".
لكن كل هذا بالنسبة لنا هو شيء فرعي، فنحن مُتديّنون؛ لأننا أيقنّا بوجود الله ووحدانيته من خلال وجداننا وما تحكّمَ عندنا، ونحن مستمسكون بأوامر الله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعالى أمر بها، ولكن مع ذلك تحصل فوائد كثيرة لا تعد ولا تحصى.
ونحن قومٌ ارتقوا إلى مستوى روحي من طاعة الله في النّفع والضّرر، وفي المنشط والمكره، ولم نتردد بالتضحية بالنفس والمال عندما يستدعي الحال، وقد أثبتنا هذا على مرّ التاريخ.
ونحن اليوم في مواجهة ثقافات عالمية متنوعة جداً بسبب مرونة الحدود، واتساع دائرة التواصل، وتطور أجهزة الاتصال، فنجد أنفسنا كلّ يوم في محاكمة ومقارنة بيننا وبين غيرنا، قائلين: "النصارى هكذا ونحن هكذا، الأوروبي هكذا ونحن هكذا، الأمريكان هكذا يفعلون ونحن هكذا نفعل".
طبعاً هناك نقد وهجوم ضدَّ الإسلام، ولأعداء الإسلام انتقادات كثيرة بالإضافة إلى آراء الشيوعيين والملحدين حول الدين ورجال الدين، ونحن نسمع كل هذا، لكن هذا لا يزيد إيماننا إلا قوة ومتانة كالحديد الذي يصير فولاذاً عندما يكون بين السندان والمطرقة، فكلما قرأنا زاد إيماننا، كلما قرأنا واستخدمنا عقولنا كلما زاد تديننا أيضاً.
قال مفكر أوروبي: "الأوروبي كلما قرأ ابتعد عن الدين"؛ لأنه يرى أشياء بحاجة إلى النقد، لكن نحن المسلمين كلما قرأنا زاد ارتباطنا بالإسلام، وإخلاصنا له، والحمد لله.
في شبابنا كان تديُّنُ الحاصلين على درجة بروفيسور ورجال العلم والفيزيائيين وعلماء الذرة، وإخواننا الذين كانوا قبلنا وحازوا على نجاحات باهرة في المجال العلمي، وحصلوا عناوين أكاديمية يُقوّي من أرواحنا، وكنا نُسَرُّ بأنهم شباب مسلمون يعلمون علوم القرن العشرين، درسوا في أمريكا وبريطانيا، وحصلوا على الدكتوراه، ودرجة بروفيسور، وهم مع ذلك متديِّنون، وآمُل أن يعطي هذا الأمر قوّة لشباب اليوم أيضاً إن شاء الله.
دينُنا الإسلام ليس ديناً ظهر مع سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو دين بدأ مع أبينا آدم عليه السلام، ففي القرآن: ﴿النبيين الذين أسلموا﴾([1])، يتبيّن أن جميع الأنبياء السابقين كانوا مسلمين، وآيات القرآن الكريم تبيّن أن إبراهيم ونوحاً وموسى وعيسى عليهم السلام كانوا جميعاً على نفس الطريق.
يعني ذلك أن الحقيقة هي نفسُها منذ سيدنا آدم عليه السلام إلى سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الإيمان بالله وحده والتسليم له والتوكل عليه، أصلًا "الإسلام" يأتي بمعنى التسليم، التسليم لإرادة الله، وطاعته، والرضى بلُزوم ما أمر به، والخضوع له، عبادتُه وطاعتُه، والتشديد في تجنّب عبادة ما سِواه، وهذا هو ما كان عليه جميع الأنبياء السابقين.
يقول نوح عليه السلام: ﴿ربّ إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً﴾([2])، يا رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً إلى طريق الحق، وقلت لهم بأن لا تعبدوا هذا الصنم وذاك، لكن: ﴿فلم يزدهم دعائي إلا فراراً﴾([3]) كلُّ ما قلته لهم لم يزدهم إلا فراراً، فرّوا ولم يُصاحبوني ﴿وإني كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم﴾([4]) يُبيّن تصرُّفاتهم السلبيّة بقوله: إنه عندما يرغب في قول الحقّ لهم كانوا يغلقون آذانهم.
ونحن نعلمُ أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يقول: "لماذا تعبدون هذه التماثيل التي صنعتموها بأيديكم؟ اعلموا أنني سأوفّيها حقّها، فليس فيها أي وجهٍ من وجوه أهليّة العبادة، سأدبِّر مكيدةً بها"، وأنه حطّمَ تلك الأصنام بالفعل.
ونعلمُ أيضاً أن موسى عليه السلام وقف في وجه فرعون إذ قال: "لا أعلم لكم من إله غيري، أليس لي ملك مصر ونهر النيل هذا؟ لن تعبدوا أحداً سِواي وأنا ربّكم"، وأنه تجادل معه جدالات عظيمة، وأنه دعاه إلى الإيمان بالله وبوحدانيّته، ونعلمُ أنه عاقب الذين عبدوا العجل من قومه عقاباً شديداً، وأنه أخذ بلحية أخيه هارون عليه السلام ورأسه عند رؤيته للعجل الذهبي الذي صنعه بعضهم انطلاقاً من عاداتهم المصرية عندما صعد هو إلى جبل الطور، ﴿يا ابن أمّ لا تاخذ بلحيتي ولا برأسي﴾([5]) اعتذر له بقوله: "يا ابن أمّ لا تجرّني من رأسي وشعري ولحيتي، لقد حذّرتُهم فلم يسمعوا كلامي"، فنحن نعلم أنه أخبرهم بوجود إله واحد وبوحدانيّته.
ونعلمُ أن عيسى عليه السلام قال: "يا ربّ، إن كُنتُ فعلتُ شيئاً آخر فقد علمتَه، ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَني به، قلت لهم ﴿اعبدوا الله ربي وربكم﴾([6])، يا رب إني لم أقل لهم اجعلوني وأمّي إلهين".
يعني أن الإسلام هو المعتقد الحقّ ظهر مع الإنسانية، ومع بداية أول اعتقاد إنساني، وامتدّ إلى أيامنا هذه، والقرآن الكريم هو خلاصة جميع الكُتب القديمة، ﴿فيها كُتب قيّمة﴾([7])، الكتاب الذي يوجد بداخله علوم الكُتب القديمة.
﴿إن هذا لفي الصُّحُف الأولى صُحُف إبراهيم ومُوسى﴾([8])، يُبيَّنُ في بعض السُّور أن هذه الحقائق المُبيَّنة مذكورة في الكتب القديمة، والمصاحف، والصُّحُف، وفي صُحف إبراهيم وموسى أيضاً.
في هذه الحالة يكون دين الإسلام هو دين الإنسانية، واليوم أيضاً هو كذلك، إنه الدّين الذي سيُوحّد جميع البشرية؛ لأنه يعترف بجميع الأنبياء، وقد سبق أن حاز جميع الأنبياء على وثيقة تصديق الإسلام، والنبوّة الشرعية، فلو لم يُصدّق الإسلام بنبوّتهم لتردّد الجميع حول موضوع أسمائهم حيث إن خاتم الأنبياء سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كان مُصدّقاً لجميع الأنبياء عندما خَتَم بختمِ آخرِ الأنبياء، صاحب الصّلاحيّات يختم أسفل الوثيقة ويقول: "نعم هذا الأمر هكذا بالفعل"، نعم عيسى عليه السلام نبيٌّ من الله، إبراهيم عليه السلام نبي من الله.
دينُنا هو الذي يقوم بوظيفة التصديق تلك، المسيحيون لا يعرفون هذا، هُم لا يعرفون أن الأشخاص الذين يؤمنون هُم بنبوّتهم يؤمن المسلمون أيضاً بنبوّتهم، لم يبلُغ عوامَّهُم هذا الأمر، إن الإسلام هو الذي يُبجِّل الأنبياء، ويُوحِّدُ بينهم، والكتاب الإلهي القرآن الكريم جمَعَ بداخله حقائق جميع الأديان السماوية، كلّ ما تحتاجه الإنسانية من حاجات يحويه القرآن الكريم، والمعاني التي علّمَها القرآن كلّها وصلت إلينا بلا تغيُّر.
هُناك رجُل علمٍ دوَّنَ بدقة عالية حياةَ سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهاراً، حياته الخاصّة، والعائلية، والسياسية، والإجتماعية، أسفاره وكلماته وأحاديثه، هذا العالم يقول بأنه: "لم تُوثّق حياة إنسان آخر على وجه الأرض بمثل هذا التفصيل"، لا يوجد شخصٌ وُثِّقت حياته كُلُّها بجميع تفاصيلها، وبهذا التفصيل مثل سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم بجميع أخباره يمثُل أمامنا كنموذجٍ حيّ.
لم يتغير في القرآن الكريم حرفٌ واحد، هو بين أيدينا منذ نزل إلى يومنا هذا، وفي المتاحف توجد نُسخ قديمةٌ منهُ، هُناك نسخة منهُ في متحف توب كابي تحمل توقيع سيدنا علي رضي الله عنه، كان لدينا أستاذ هو البروفيسور في كليّة الآداب الدكتور أحمد باي الحائز على ميداليّات عالمية، كان قد صرّحَ مرّةً: "في ظهرها مكتوبٌ: عليّ ابن أبو طالب"، في حين أنه يجبُ أن يُقال في التوقيع: "أبي طالب" بعد "ابن" بما أنها مُضافٌ إليه، هكذا هي القاعدة اللّغوية القديمة، كُتبت "أبو طالب" وكأن فيها مخالفة للقاعدة اللّغوية، فلم تستخدم صيغة المجرور بعد "ابن" مع أنها مُضافٌ إليه.
هكذا كان يقول بروفيسورُنا، هذا الأمر يُبيّن أن هذه نُسخة حقيقيّة تحمل توقيع سيدنا علي؛ لأن القاعدة اللّغوية لذلك الزمن كانت هكذا، هي نُسخة أصليّة؛ لأنها حافظت على تلك القاعدة اللغوية القديمة، ولو كانت مُزيّفة لكُتبت على هيئة: "عليّ ابن أبي طالب"، فلأنها ليست مُزيّفة كُتب فيها "أبو طالب".
طبعًا يُمكن التّحقّق من زمن كتابتها من خلال البحث في صفحاتها، ولكن هذا أيضاً دليل، القرآن الكريم موجودٌ بين أيدينا كما هو.
حياة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلّم واضحة وُضوح النّهار، ودينُنا يعترف بجميع الأنبياء، فمثلاً يُمكن لمسيحِيٍّ أن يُنكِر نُبوّة نبيٍّ من أنبياء الله، ولكن ليس من إمكانية للإنكار في الإسلام، نحن والحمد لله نؤمن بجميع أنبياء الله، أصبح من كمال تربيتنا أن نقول: "عليه السلام" عندما يُذكر أيّ اسم من أسمائهم، موسى (ع س) ماذا يعني؟ يعني: "عليه السلام"، إبراهيم عليه السلام، حتّى إننا من شدّة حبّنا لهم نتسَمَّى بأسمائهم، يوجد بيننا ناسٌ أسماؤهم موسى وعيسى ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، من شدّة حبّنا لجميع الأنبياء الذين ذُكرت أسماؤهم في التوراة والإنجيل نُسمِّي أبناءنا بأسمائهم.
كما أن في الكُتب السابقة أخبارًا حول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فبما أن الله تعالى هو الذي أرسل الكُتب السابقة أيضاً فقد وردت في تلك الكتب إشارات عديدة إلى أنه "سيأتي في المستقبل نبيّ يحمل صفات مُعيّنة"، في تلك الإشارات وتلك الجُمل إعلامٌ بسيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وردت في القرآن الكريم معلومات حول هذا الأمر في سورتيْ الصّف، والفتح، وفي عدد من السّور الأخرى.
على غرار القرآن الكريم وردت معلومات أيضاً في التوراة والإنجيل، والرّهبان يُظهرُون تلك الآيات التي في تلك الكُتب، فعندما كُنّا طلبةً في كلّية الآداب أحضَر لنا البروفيسور الباكستاني الهندي حميد الله باي تلك الآيات والجُمل، ودرَّسَها لنا، ثُمَّ هناك مقالة لزكي وليدي طوغان: وُجدت في مغارةٍ على ضفاف بُحيرة لوط التي تُسمى "كُومران" نُصوصٌ قديمةٌ تعود إلى اليهوديّة والمسيحية، كُتُبٌ قديمة جداً، كانت قد خُبِّئت في تلك المغارة حتى لا تُحرق، ولا يُخرّبها الرّومان، أخذت أمريكا قسمًا من تلك النّصوص، وقسمٌ منها في الأردن، وقسم آخر في الفاتيكان، أُخِذت إلى أماكن متعدّدة، وتمّت دراستُها، في هذه النُّصوص توجد مُعطيات تُشير إلى التحريفات التي في التوراة والإنجيل، وتُثبتُ أن القرآن الكريم على حقّ، هي وثائق تشهد بمصداقية القرآن الكريم.
وهناك بعض كبار الرّهبان والعلماء المسيحيين واليهود أسلموا بسبب البشارات التي في كُتُبِهم؛ انتظروا قدوم نبيٍّ بأوصافٍ معلومة قبل قدوم سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما ظهر صلى الله عليه وسلم اتّبعوهُ.
وسلمان الفارسي رضي الله عنه مثالٌ من زمن سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم. سلمان الفارسي رضي الله عنه وُلِد لِعائلة إيرانية أصيلة، وبعد أن لازم الرّهبان وتنقّل بين مُدُن وبلدان مُختلفة ذهب إلى الحجاز إثر سماعه باقتراب ظهور نبي آخر الزمان بالحجاز؛ لكي يُدرِك مَقدمَه، ويعرفهُ ويتّبعهُ.
عبد الله بن سلام أيضاً أحد عُلماء اليهود في المدينة المنورة، أدرك أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم نبيُّ حقٍّ من خلال المعلومات التي وردت في التوراة، فأسلَمَ، هذه الأمثلة هي أكبر دليل على وجود مُعطيات حول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكُتُب القديمة؛ لأن الكُتُب القديمة وُجِدت قبلنا في ساحات الثقافات المُختلفة، ولا يُمكن أن نكون نحن من اختلقنا تلك المُعطيات!
حتّى إنّ وقف "بيكوم عائشة باواني" في باكستان نشر كِتابًا اسمُهُ "الإسلامُ خيارُنا" (Islâm: Our Choice)([9])، عُرضَت فيه صُورٌ من بعض المصادر الهنديّة، ومن صفحات الأديان الهندية القديمة، وفيها جُملٌ حول ظهور سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
هُناك ترجمات ونُسخٌ لنصوص تتعلّق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الكُتب الهندية القديمة، والنّصوص الدينية الإيرانية القديمة، وكُتب الأديان التي ظهرت على وجه الأرض قبل العصر الذي عاش فيه، يعني ذلك أن هُناك بشارات بقدوم سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل، والنّصوص الإيرانية والهنديّة القديمة، يُشارُ إلى ذلك في القرآن الكريم.
مثلاً: ﴿وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد﴾([10]).
تُبيّن سورة الصّف أن في الإنجيل آيةً تقول: "سيأتي رسولٌ من بعدي اسمه أحمد"، وأنّ عيسى عليه السلام قال ذلك، وبالفعل هناك آية كهذه في الإنجيل، أرَانا إياها حميد الله باي من الإنجيل.
بسبب هذه الآية ترجَمَ كثيرٌ من الرُّهبان اسمَ ذلك الشخص الذي هو سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم باسمِ "فرقليط"، وليس بين أيدينا نصّ الإنجيل الأصلي الذي نزل، بين أيدينا ترجماتهُ فقط، في الترجمات هناك كلمات مُترجمةٌ تُقابلُ تلك الكلمة الأصلية، ومع ذلك فإن الرهبان أفادوا بأن تلك الكلمات تُشير إلى سيدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأدّى ذلك إلى إسلامهم.
هناك مثال مشهور هو مثال راهبٍ اسمه (أنسلمو تورميدو)، نشأ في جزيرة مايوركا الإسبانية، بعد أن أتمَّ هذا الراهب تخصُّصه في كلٍّ من إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وبينما كان يعمل في خِدمة عالمٍ كبيرٍ في ديْرٍ بفرنسا علِم بأنّ تلك الآية من الإنجيل تتحدّث عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى تونس، وأسلَمَ هُناك، ثم اتّخذ له اسم "عبد الله التُّرجُمان"، وألّف كتابًا موضُوعُه آيات الإنجيل التي تُبشِّر بالإسلام، وبسيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة التركية.
كُنت قد اطّلعت على كتاب بعُنوان: "رسالة إسلامية" لناشِرِنا المشهور إبراهيم مُتفرّقة الذي أدخل المطبعة إلى تركيا، يقال: إنّ "رسالة إسلامية" كتابٌ يشرح الإسلام، هكذا يُشاعُ. وبما أنّني رئيس كُرسيّ الأدب الدينيّ فقد درست هذا الكتاب كبحثٍ للحصول على البروفيساريّة لمعرفةِ ماهيّته، وفي النهاية نشرتُ ذلك البحث في شكل كتاب.
إبراهيم متفرقة الذي جلَبَ إلينا المطبعة هو راهبٌ عاش في مدينة كلوجوار برومانيا، حاز على تحصيل علميّ جميلٍ وعالٍ جدّاً، تعلّم اليونانية واللاتينية، ودرَسَ النُّصوص القديمة والكُتب التي في مكتبة الكنيسة، ويقول بأنه قرأ الكُتُب التي حرّمها عليه أساتذتُهُ عديمو المُروءة، هم أساتِذةٌ ولكن لأنهم ليسوا مسلِمين، ولأنّهم أخفَوا الحقيقة فإنه يُسمّيهم بعديمي المروءة، "قرأت الكُتُب التي أخفاها عنّي أساتذتي عديمُو المروءة كيْلا أقرأها"، ثم يقول بأنه صار منذ ذلك الحين على علمٍ بالموادِّ التي تُبشّر بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في الأدبيّات المسيحية، وبسبب ذلك صار مُسلِمًا.
"رساله إسلامية" ليس كتاباً يشرح الإسلام، فهذه المسألة مُخبّأةٌ فيه، والباحثون يُخبّؤون بعض الحقائق حتى لا يعلمها عامّة الناس.
من الذي قام ببحثٍ حول هذه الشخصيّة؟
يقال: إن البحث الأكثر علميّةً حول إبراهيم مُتفرّقة هو البحث الذي قام به الراهب الكاثوليكي الفُلاني.
هل يُمكن أن يرغب راهب كاثوليكي في تعريفنا بمادّة راهبٍ مُسلمٍ يعود نفعُها على الإسلام؟ لن يُعرّفنا بذلك.
"كتاب يشرح الإسلام"، لا ليس كتاباً يشرح الإسلام، هو كتاب يتناولُ بالبحثِ موضوعَ آيات الإنجيل التي كانت سببًا في إسلام الرّاهب إبراهيم متفرقة، الراهب يُخفي الحقيقة حتى لا يقترب أحد من ذلك الموضوع، ولا يعلم به.
فإبراهيم متفرّقة يتحدّث في الكتاب إلى جانب حياته ـ يُبيّن ذلك باللّاتينية أيضاً ـ عن الآيات التي رآها قبل أن يُسلِم.
و"متفرّقة" تعني الخدمات الفنّية والتقنية العالية في القصر السلطاني، يُقال: "متفرّقة" لأرباب مجموعة الأعمال التي تحتاج إلى اختصاصٍ وفنٍّ ومعرفة وتأدُّبٍ، وإبراهيم متفرقة هو مُستخدمٌ وموظّف في القصر السلطاني، وصل إلى درجة تؤهّلُه للقيام بتلك الخدمة، ثم انتقل بعد ذلك من المُتفرّقيّة إلى خدمةٍ أعلى منها.
لقد كان بالفعل طول عُمره صاحب فائدة، وقدَّم خدماتٍ جديرة بالثناء، نوّر الله قبره، وأسكنه جنّته، فقد وصلت من خلال بحثي إلى أنه كان مُسلمًا مُخلصاً، وأنّه خدَمَ الإسلام بحقٍّ، وكتابه هو عبارة عن دراسة تتحدّث عن الآيات التي أسلَمَ بسببها راهبٌ بعد قراءته لنصوص الإنجيل، وبما أن الكتاب مُفيدٌ فقد قمت بنشره لكي يراهُ رُهبانٌ آخرون.
هناك باحثٌ آخر اسمه عبد الأحد داود، يقال: إنه كان مسيحيّا، وإن اسمه كان عبد المسيح، عبد المسيح يعني عبد عيسى المسيح، هو اسم يتسمَّى به من يؤمنون بألوهيّة عيسى عليه السلام، أسلَمَ وتسمَّى بعبد الأحد، عبد الأحد يعني "لا شيء من ذلك، الله واحد"، يعني أنه عبد لله الأحد، مثلما كان يقول بلال الحبشيّ: "أحد أحد"، تسمّى بعبد الأحد لأن الله "أحدٌ لا شريك له، ولا نظير".
لديه كثيرٌ من الأبحاث القيِّمة التي تشرحُ الإنجيل، هو إنسانٌ تعلّم كلّ شيء بشكل جميل، ذهب إلى بريطانيا وروما، وحصل على الدكتوراه، ثم دكتوراه أخرى، وأصبح بروفيسوراً في إيران، ويعرف التركية والفارسية والعربية والإنجليزية والإيطالية واليونانية والسريانية.
سبق أن أشرنا إلى أصدقائنا قائلين: "ابحثوا في حياة هذا الرجل، أين قبره؟ ما مؤلّفاته؟"، رجُلُ علمٍ دخل الإسلام، وألّف مؤلّفاتٍ للدّفاع عنه، وليُبيّن أوجُه خطأ المسيحيّة، يجب أن لا يبقى خلف الستار.
رُبّما هناك من يريد إخفاء أمرِه، ولكننا أمّة نحفظ قدر الناس، لذلك علينا أن نعرف قدره، وأن نُعرِّف به، لذلك ذكرت اسمه هُنا، رحمه الله تعالى، ورحم عبد الأحد المذكورَ أيضًا.
هناك إخوة لنا مُحيطون بعلوم عصرنا، خادمكُم [مُحدِّثُكم] بروفيسور، وبيننا أيضاً إخوة وأحبّةٌ بدرجة بروفيسور، نحن مُسلمون بكلّ اعتزاز، نحن مسلمون بكلّ حبّ من الروح والقلب بوصفِنا مؤمنين مُطَّلِعين وعالِمينَ بالعديد من الشّبُهات، وبوصفنا ممّن يُجيب على تلك الشُّبهات كُلُّ شُبهة تزيدُنا تعلُّقاً أكثر بالإسلام، فهكذا هو دين الإسلام.
ما العواملُ التي تُرجّحُ الإسلام؟ أريد أن ألَخِّصها باختصار.
أهمّ خصائص الإسلام هي الاعتقاد، فالتقصير والذنوب يمكن أن تُغتفر، لله تعالى مؤسّسة اسمُها العفوُ، هُناك رحمتُهُ ومغفرتُهُ، المهمّ هو الاعتقاد، الأساس العلميّ، الفهم الصّحيح للحقيقة، عندما تُفهمُ تلك الحقيقة بشكلٍ صحيح فإن الله يغفر بقية النقائص.
﴿إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾([11])، الله لا يغفر فقط لمن لم يفهم تلك الحقيقة، الذين لم يُدركُوا تلك الحقيقة العلميّة لا يغفرُ لهم، يمكن أن يغفر باقي الأمور، فيصفح عمّا يشاء من الذنوب.
لذلك فعلينا أيضاً أن نفهم تلك الحقيقة العلميّة جيّداً قبل كلّ شيء، الكفر والشرك ذنبان لا يُغفران، الكفر إنكار كامل، والشرك خطأٌ في العلم، أو اتخاذ شريكٍ، هناك إيمان، ليس إنكاراً تامّاً، ولكنّه اعتقادٌ خاطئ، هذا أيضاً لا قيمة له، لا يُقبل.
يجب على الإنسان أن يعرف الله بشكل صحيح، إمّا أن يعرفه بشكل صحيح، وإما أن لا يُغفر لهُ إذا لم يعرفه، فأعظم وظائف الإنسان هي معرفة خالقِه، يجب عليه قطْعًا أن يعرف بشكلٍ صحيح من يعطيه كلّ يوم رزقه وصحّته وعقله، وجميع أنواع النِّعم التي لا حصر لها، فالله لا يغفر ذلك الخطأ.
هذا هو منطق الإسلام، وهذه هي قضية الأنبياء منذ أبينا آدم عليه السلام إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، على الإنسان أن يفهم هذه الحقيقة، وأن لا يعبد الحجر الذي يصنعه بيديه، والشمس التي يراها في السماء، والقمر، والنجوم؛ لأن العلم اليوم يتحدث عن عدد النجوم التي مثلها، ونحن نعلم أعداد الشّموس، وأعداد المجموعات الشمسية.
ويجب أن لا يعبُدَ أيضاً الحيوانات التي على وجه الأرض التي نُضجِعُها ثم نذبحُها، الحيوانات التي نصنع من لحومها كبابًا وشرائح، يعني أن على الإنسان أن يجد الصّواب، وأن لا يأتي بتفاهات.
ثم هناك مقولةٌ حول عبادة الشيطان: ﴿لا تعبدوا الشيطان﴾([12]).
ثمّ عبادة النفس: ﴿أرأيت من اتخذ إلاهه هواهُ﴾([13])، اتخاذ النفس معبوداً.
الناس أحياناً لا يعبدون الله، ولا يطيعونه، وبعضُهم يُطيع الشيطان فيلتزمون أوامرهُ وأقواله، وبعضهم يلتزمون أوامر النفس وأقوالها، يلفت النّظر إلى هذا الأمر؛ لأن البعض يعبد النفس، كل ذلك يجب أن لا يُعبد، لا يُعبد ما سوى الله، يجب أن يكون الأساس هو الإيمان بوجود الله ووحدانيته. كلّ هذا جميلٌ وموافق للعقل والمنطق والعلم وللقرن العشرين.
المظاهر الخارجية للأعمال ليست مهمّة، المهم هو لُبّها، فالنّية والإخلاص هما الأساس في الإسلام، قد يقوم شخصان بنفس العمل، ولكنّه يُقبلُ من أحدهما، ولا يُقبل من الآخر. لماذا؟ لأن النية شيء آخر، عقلُه يشغلُه شيء آخر فنيّتُه سيّئة، من جهة الشكل الخارجي كلاهُما يقوم بنفس العمل، ولكن الله يقبلُ أحدهما، ولا يقبل الآخر، فيُكافئ أحدهما، ويُعاقب الآخر.
ومن هُنا فالإسلام دينٌ يحُضّ على الإخلاص، ولا يقبل الطلاء الخارجي، ويأمر ويوصي بتنظيف الباطن وبالإخلاص، حتّى إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدين النّصيحة"، وهذا حديث شريف لم يُفهم معناه بشكل جيّد، فهو يُترجم بمعنى "الدين هو النصيحة"، غير صحيح، هو يعني بأن "الدين هو الإخلاص"، النصيحة تأتي بمعنى الإخلاص، الدين ليس معناهُ النصيحة، حتى مع عدم وجود النصيحة فالدين هو الإخلاص.
اتّفقَ أن وقعَ في يديّ كتاب يقول بأن: "المضمون الإخباريّ لكلام الإنسان الذي يوصِلُه من خلال كلامِه إلى غيرِه أثناء التواصل تبلغُ نسبةُ دورِه في إيصال المعلومة عشرة بالمائة، ونسبة حركات الجسم وتعابير الوجه ثلاثون بالمائة، أما حالُ الإنسان فنسبتُها ستون بالمائة".
فالتواصل والإخبار يقوم أساساً من خلال الحال، يقولون: "الشخص الفلاني يشرحُ طُرُق إيصال الرسائل وصورها"، الإنسان يُمكنُ له أن يُحقّق التواصل بدون كلامٍ، المهمّ هو الإخلاص.
"الدين النصيحة" يعني الدين هو الإخلاص، أصلًا الجملة التي تليها توضّح المسألة، "قالوا: لمن يا رسول الله؟" لمن الإخلاص يا رسول الله؟ "لله" الإخلاص لله، إذا كان معناها هو النصيحة فهل كان من المُمكن النصيحة لله؟ هل يمكن للعبد أن ينصح الله؟ يعني أن معناها ليس النصيحة، وإنما الإخلاص لله.
"وللرسول" الإخلاص للرسول، "ولكتابِه" الإخلاص للقرآن، لا يُمكن أن يتعلّق الموضوع بالنصيحة للقرآن.
"ولأئمّة المسلمين" الإخلاص لِقادَةِ المسلمين، "ولِعامّتهم" الإخلاص لجميع المسلمين"([14]).
كم هو جميل! يقول بأن الدين إخلاصٌ بالكامل، يجب علينا أن نُسمِع الإنسانية هذا الأمر، فالدّين ليس طقوسًا جافّة، وليس مظهراً خارجياً، بل لُبٌّ وإخلاصٌ، إخلاصٌ كاملٌ، هو إخلاصٌ لله وللرسول وللقرآن وللقادة وإخلاص لجميع المسلمين بشكل عام، هكذا لخّصَ سيدنا النبي صل الله عليه وسلم الدّينَ.
ثم إن أوامر الإسلام ونواهيهِ ليست أوامر اعتباطيّة، ليست أوامر أُمِرنا بها بمنطقٍ من قبيل: "أنا أريد هذا، لذلك عليكم أن تفعلوا ذلك، يجب أن تفعلوا كما أمرتكم".
إذاً كيف ذلك؟ القصد من أوامر الإسلام خمسة أهداف، يُمكن جمعُها في خمسة مقاصد:
1 – حفظ الدِّين: حتى لا يكون كفرٌ ولا شركٌ ولا نحوه.
2 – حفظ النفس.
3 – حفظ العقل: بسبب ذلك حُرِّم الخمر، حُرِّم لأنّه يُذهب العقل؛ لأن وظيفة الإسلام هي حفظ العقل.
4 – حفظ النسل.
5 – حفظ المال: لا يُمكنُك أن تُلحق ضررًا بالمال، ظهرت موضة الآن في المطاعم يكسرون الأطباق، ثم يدفعون مبلغ خمسة آلاف ليرة، ليس من الإسلام أن تكسر طبقًا لمُجرّد التخلّص من الضغط النفسي، لا يمكنُك فعل هذا، لماذا؟ لأن المال أيضاً مُحترمٌ في الإسلام، ومن يُتلِف المال يُعاقب، لا يمكن لكَ أن تقول: "لقد كسرتُ طبقِي"، حتى إذا كنت كسرتَ طبقَكَ فإن الإسلام يقول لك: "بما أنّني الحاكم فسأعاقبك"، وبما أن المال مُحترمٌ فمن المُهمّ الحفاظ عليه، هذا الأمر منصوص عليه في أحكام المجلّة.
"لا ضَرَرَ، ولا ضِرار"([15])، لا إضرار بالمال في الإسلام، أنا لا يُمكنني إحراق محصول الجار الفلاني، لا مكان لهذا الشيء في الإسلام، هذا حرام، وجزاؤهُ عظيم.
"هو أحرق محصولي من قبل، لذلك سأجازيه بحرق محصولِه" لا! لا يمكنُكَ فعل هذا أيضاً، لا إضرار، ولا يُعطي إحراقُ أحدهم الحقّ لغريمه في مُجازاته بنفس الفعل، ولكن يمكنكَ رفع الأمر إلى القاضي للحصول على حقّك، لا يُمكنُك إتلاف المال؛ لأن الإسلام يعُدُّ المالَ أيضاً مُحترَمًا.
كان هُناك طالبٌ رمَى بمِصباحٍ مُحترقٍ على الحائط بجانب أحد الشّيوخ، فعاقبهُ الشيخ، فقال بعضهم: "لكن المصباح كان محترقاً يا شيخنا"، فأجاب: "لا، ليس من الصواب إتلاف شيء مصنوعٍ، ربّما أمكن استخراج سطحه الخارجي، واستخدامه في شيء آخر".
أذكر أن بروفيسورنا رحمه الله قال لي مرةً: "تعال سآخُذك إلى شيخٍ"، وكان شيخُنا هذا يُقيمُ في بيت سعد الله باشا الصيفيّ في منطقة "جنكل كوي"([16])، فأخذني إلى شخصٍ اسمُه الحافظ يوسف بدُكّانٍ في منطقة "ألتوني زاده" أشبه ما يكون بدُكَّان بائع خُضارٍ، وكنت أنا حينها مُساعدًا لهذا البروفيسور.
نظّارات الحافظ يوسف لم يكن رقمُها ثلاثة، ولا خمسة، ولا سبعة، ربما كان رقمُها عشرة، رقمها كان كبيراً جدّاً، وكان هو إنساناً صغير الحجم ومُسِنًّا، تعانقَ كلاهُما، رحمهما الله.
قال لي: "قبِّل يدَ شيخك الثاني"، فقبّلتُها، كان شخصاً عجيبًا، لديه سريرٌ في زاوية الغرفة، في طرفٍ منها خزانةٌ ذات أدراجٍ فيها كُتُبُه، وفي طرفها الآخر مصباحُ إضاءة كبير يستخدمهُ كإبريق شايٍ، وفوقه مصباحٌ أصغر منه جعلَ منهُ إناءً لطبخ الشاي، لقد استعمل المصباح الكبير في عملٍ مفيدٍ حيث استخدمه في تسخين الماء، استخدمهُ كإبريقٍ لتسخين ماء الشاي، واستخدم الآخر لطبخ الشاي، كان رجُلًا عجيبًا، وعالِمًا كبيراً، كُتِبت حولهُ العديد من الكُتُب، اشتهر باسم الحافظ يوسف([17]).
الإسلام يجعل من حماية العقل والمال والدين والنسل أمورًا أساسية، ومن هناك يأتي تحريم الزنى، واشتراطُ عقد النّكاح، كما تجب حماية النسل، فإسقاطُ الأجِنّةِ ليس أمرًا صائبًا، هو جنايةٌ، الطفل الذي تشكّل في رحم أمّه يقع اعتبارهُ في الميراث؛ لأن لهُ قيمةً، يعني ذلك أن أوامر الإسلام ونواهيه جاءت من أجل حفظ الأمور الضرورية للإنسان، من أجل مصلحة الإسلام، ومصلحة الإنسان.
والقرآن الكريم أيضاً يقول: ﴿قل إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾([18])، ففي كُلِّ أوامر الله خيرٌ.
لكن لماذا أمر بالحرب؟ لأن الحرب أيضاً ضرورية.
لماذا شُرعَ الطلاق؟ لأن الطلاق صمّام أمان الزواج، ولو لم يكن الطلاق موجوداً لاضطرّ الناس إلى الانتحار، ولوَقعُوا في الأزمات النفسية، فالطلاق أيضاً سببٌ، وهو شرطٌ من أجل سعادة الإنسان، أحياناً قد يصل البعض إلى نقطة يستحيل معها التحمّل، وفي هذه الحالة فالطلاق أيضاً يكون نعمة، أحياناً يكون الموت نعمة، وفي أحيان أخرى يكون الطلاق نعمة.
الله لا يأمر بالسّوء، كلّ أوامره تعالى تُقصدُ بها المصلحة، فالإسلام بهذا الاعتبار جميلٌ وذو فائدة، الإسلام ليس دينًا سابحًا هكذا في الهواء، أو بين السحاب، أو في السماء، وليس أيضاً نظاماً يهتمّ بالآخرة فقط.
لقد أخطأ القائلون: "الدّين شُعورٌ لا يمكن لأحدٍ أن يصلَ إليه"، و"فلأعتبِر أن اللائكيّة هكذا"، خطأ.
أنتَ لم تتمكّن من معرفة الدين، ولا معرفة اللائكيّة.
ما الدين؟ وخاصة الإسلام؟
الإسلام هو أسلوب عيشٍ.
هل الإسلام هو الصلاة؟ ليس الصلاة فقط.
هل هو رمضان؟ هل هو الصوم؟ ليس رمضان فقط، وليس الصوم فقط.
هل هو الحجّ؟ ليس الحجّ فقط.
الإسلام هو أسلوبٌ لعيش الحياةِ وفق نظام إيمانيّ مُحدّد، هو نظامٌ يهتمّ بكلّ لحظة من لحظات الإنسان من الصباح إلى المساء، من الليل إلى النهار، من البيت إلى مكان العمل، ومن المهد إلى اللّحد.
هو نظامٌ يعيش الإنسان بداخله، وليس شارَةً يُعلّقها على ياقةِ قميصِه، هو ليس لباساً يلبسُه ويخلعُه؛ لأنه بيئةٌ يعيش بداخلها، وبهذا الاعتبار فإن بعض الأشياء عبادة.
ستُفاجؤون لأن هناك بعض الأشياء المثيرة للدهشة؛ لأنها تُعتبر من العبادات، مثلاً الزواج عبادة، علاقات الزوجية بين الزوج والزوجة فيها ثوابٌ، السُّكوت عبادة، النية الحسنة عبادة، أن يتمنى الإنسان فقط، ينوي في نفسه عملاً حسناً، هذا عبادة.
الإسلام يهتمُّ بالدنيا والآخرة، بالفرد والمجتمع، وبالماديات والمعنويات على حدّ السواء.
كان هناك رجلٌ في "تقسيم" ذهب إلى مركز الشرطة، واشتكى على جارٍ له، فقال لهم: "جيرانُنا يفتحون الستائر، ويتجردون من ملابسهم، وهذا يؤثِّر على راحة عائلتنا، لذلك تقدمت بالشكوى إليكم".
فأجابه الشّرطي بقوله: "وماذا أفعل لهُم؟ أنا لا أتدخّل فيما يحدُث داخل البيت".
الإسلام يتدخّل، الإسلام يتدخّل فيما يحصل داخل بيت الإنسان، وداخل قلبه، وداخل رأسه، وفي نيّته أيضاً، أصلًا إذا لم يتدخّل فلن يتمكن من تحقيق النظام والانتظام أبداً، وبالرغم من وجود الشرطي في ذلك المكان إلا أن تلك الفوضى التي في الداخل ستتواصل، لذلك فإن هذه المسألة في الإسلام ميزةٌ عظيمة جداً.
مثلاً الإنسان الذي يشتغل بالتجارة يكسب ثواباً، "الكاسبُ حبيب الله"، الذي يشتغل بالتجارة ويكسبُ منها هو عبدٌ حبيبٌ لله.
بل إن هناك حديثاً شريفاً يُبشّر بأن: "التاجر الصادق الأمين مع النبيّين والصّدّيقين والشّهداء يوم القيامة"([19])، هو تاجرٌ يحصُل على الأموال، ويكسب المال، ولكنّهُ يُثابُ أيضاً على صدقِه، ففي التجارة ثوابٌ؛ لأنها تؤمّن احتياجات الناس من خلال جلبِ الأمتعة التي تحتاجُها هذه البلدة أو تلك إليها.
إدارة الدّولة فيها ثواب، ففي الحديث الشريف ورَدَ أن: "أفضلُ الناس عند الله رجُلُ دولةٍ عدْلٍ"([20])، يكون الإنسان أفضل الناس بشرط أن يكون عدلاً، وعليه فإن إدارة الدولة، أو الولاية، أو وظيفة قائم المقام تكون عبادةً.
يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسُّهُما النار، عينُ شخصٍ ذكر الله وعَبَدَهُ خاليًا ففاضت عيناهُ، لا ترى عينُهُ النار، وعينُ مَن بات يحرُسُ المسلمين من الأعداء في الحدود لا تمسُّها نار جهنّم"([21]).
عندما ذهبنا إلى العسكرية كان هناك من يهرُب من الحراسة، فكُنّا نقول لهمُ: "سنتولّى نحن الحراسة بدلاً عنكم"، لماذا؟ لأننا نعرف أن في الحراسة ثواباً، وكُنّا قد ذهبنا إلى العسكرية قبل تناول طعام الغداء؛ لأننا أردنا أن نذهب قبل الوقت المحدّد حتى نكسب بذلك الوقتِ ثوابًا أكثر، لم نُفكّر في تناول الغداء والعشاء ثمّ الذهاب، بل ذهبنا إلى هناك باكراً حتى نظلّ ساعات أكثر هناك.
لماذا؟ لأن العسكرية والحراسة أيضاً عبادة إذا كانت نيّتُك حسنةً، وإدارة الدولة أيضاً عبادة، والسكوت عبادة، والتجارة والتفكُّر والكلام أيضاً فيها ثوابٌ. لماذا؟ لأن الإسلام حياةٌ وأسلوبُ عيشٍ وطريقة في تسيير الحياة، وهو الصورة الكُليّة لأسلوب عيش الإنسان، فالأعمال التي تعملونها إمّا لكُم وإمّا عليكم، إمّا ذنبُ وإمّا ثواب.
بعضهم يسأل: "ما الفقهُ؟"، يُقالُ في تعريف الفقه: إنه "معرفة الإنسان لما له، وما عليه"، هذا هو الفقه، إذا عرفت الأشياء التي لي، والأشياء التي عليَّ فهذا يعني أنني أحسنُ من عَرَف الدين.
الإسلام ليس خاصّاً بقومٍ أو بعصْرٍ فقط، مثلاً اليهودية خاصّة بقومٍ معيّنين، فهو دينُ أولئك القومِ، الإسلام ليس كذلك، فهو يخاطِب جميع الناس وجميع العُصور، وسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أُرسلَ كافّة للناس بشيراً ونذيراً، هو رسولٌ لجميع الناس، وحتى للمخلوقات التي لا تُرى مثل الجنّ، حيث يذكر القرآن الكريم أن الجنّ أيضا آمنوا.
وسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ليس رسولًا فقط لتركيا، فهو رسولٌ لبريطانيا أيضاً، ولأمريكا، ولليابان، لماذا؟ لأنهم أيضا يعيشون في زمن المرحلة المحمديّة، إذا كانوا سيؤمنون فإن عليهم الإيمان بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، عليهم أن يُسلموا، إذا لم يؤمنوا فإنهم سيكونون كُفّارًا؛ لأنهم لم يؤمنوا بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
لا يكفي الإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام؛ لأن المرحلة تغيّرت، هذا زمن المرحلة المحمّديّة، كُلُّهم أمّتُه، شهدوا بنُبُوّتِه، واستجابوا لدعوة مَن تمسّكوا بأوامره، والبقيّة مُخاطبون بدعوته، فهم أُمّته نظريّاً، وليسوا أُمّتَهُ بالفعل، والإسلام لجميع الناس.
الإسلام صاحب مبادئ وأفكار جميلة جدّاً، أصبحت اليوم مظهراً للتوجّه العالمي، ويُصفّق لها الجميع تقديراً.
ومثال ذلك قول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يُحبّ الجمال"([22])، هو جميل وخلَق الجمال، وهو يُحبّ الشيء الجميل، لذلك يجب أن يكون في المُسلم إحساسٌ بالجمال، ووَلَعٌ بهِ، يجب أن يكون هناك جماليّة، يجب أن يصنع ما يصنعُه بشكل جميل، وعليه فإن الإسلام يمنحُك تربية جماليّة، وروحًا فنّيّة، لذلك فَيُونُس هو يونُس، تجاوز عُصور مولانا، وتجاوز الحدود، وانتشر ذكرُه في العالم، لذلك أعلنت اليونسكو سنةً باسمِه؛ لأن لديه إحساساً بالجمال، وهو يعرف قيمة جمال الزهور.
نحن الآن نقوم بأعمال تهيِئة البيئة في منطقة أيوب، نجتهد في الحفاظ على الجمال القديم لذلك المكان، حيث بدأنا في ترميم تكيّة الشيخ مراد أفندي، تُحيط بالتكيّة أراضٍ مساحتُها سبعة عشر دُنمًا تقريباً، يُقال: إن حديقتها كانت تحتوي على أندر الأزهار، وإنّ الظِّباء كانت تتجول في أرجائها، هل يمكن لكم تخيّل المشهد؟ كم هو لطيفٌ ذلك العالم الروحاني والجمالي! تحتها أيضاً توجد تكيّة سلامي مصطفى أفندي المشهورة بوُرُودِها.
جاء في حديثٍ شريفٍ: "إنَّ الله يُحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه"([23])، يقول بأنه تعالى يرحم الإنسان الذي يفعل ذلك، هذا الأمر ترغيبٌ في اهتمام المُسلم بالجودة، لديه إحساس بالجمال، وهو مأمور بصُنع الشيء بجودةٍ عالية، عليه أن يصنع ما يصنع بأجمل ما يكون، فسَيفُه يجب أن يكون أقطَع السّيوف، وخزفُهُ يجب أن يكون أجمل خزفٍ، ومسجدُهُ يجب أن يكون أجمل المباني الخالدة، يجب أن يصمُد لعُصور، يجب أن لا يخرب، وأن لا يخمُدَ تألُّقُه، ويجب أن يستمرّ وأن يكون جميلاً، لدى المسلم فكرة صُنع ما يصنعُ بشكل جميل، وإنجازِه بأجود ما يكون، وعلى أحسن وجهٍ.
النظافة المعنوية والمادية أساسٌ في الإسلام، لا يمكن لأحد إنكاره، ونحن نعلمُ أن الأوروبيين لا يغتسلون، ويكتفون بمسح أجسادهم بالقطن، وأنهم يتجنبون الاغتسال حتى لا يذهب عنهم تأثير ماء التّعميد، وأن قصر "فرساي" ليس فيه مراحيض، في حين أن للمسلمين حمّامٌ بجانب كلّ دار عبادةٍ يُنشئونها، يكون بجانبها مدرسةٌ، ومضافةٌ لإطعام المحتاجين، وحمّامٌ، وماء باردٌ وحارٌّ، ومكان للاغتسالِ مجّانيٌّ.
يقول السفير الهولندي "دي بوسبيك" الذي زارَ العثمانيين في القرن السادس عشر: "هؤلاء الرجال سيمرضون، يتخبّطون في الماء، ويغتسلون مثل الأسماك، كيف يمكن أن يكون الاغتسال بهذه الكثرة؟"([24]).
هو يجزعُ من كثرة اغتسال المسلمين في الحمام، فنحن نغتسل كلّ يوم خمس مرات.
كان عبد الحميد خان ـ جُعِل مثواه الجنّة ـ يأخذ مِنشفتهُ كلّ صباح، ويستحمّ في الحمّام، ثم يرتدي ملابسه، طبعاً من كان يمتلك الإمكانيات كان يفعلُ ذلك، أما من لم يكن يستطيع فكان يذهبُ مرة في الأسبوع على الأقل.
كان الرجال والنساء والأطفال يأخذون صُرَرَ ثيابهم النظيفة، ويذهبون للحمام ويغتسلون، كانوا يغتسلون حتماً مرّة في الأسبوع على الأقل.
أن لا يغتسل الإنسان إلا مرة في السنة حتى تتراكم الأوساخ في شكل طبقة على جلده، أن تصبح مثل الدّرعِ وأن تكون مثل جلد السلحفاة... لا مكان لهذا في الإسلام.
في الإسلام نظافة مادية ومعنوية، قصّ الأظافر، والأخذ من الشارب، وتنظيف أسافِلِ الكراسيّ، وغيرها من أنواع النظافة... تنظيف المكان، مثلاً إذا كانت ثيابكم غير نظيفة فصلاتكم لا تصِحُّ.
فالتطهّر من النجاسة، ومن الحدث شرطان، وهما من فرائض الصلاة، تقومون بهذا الأمر خمس مرات في اليوم، وبما أن صلاتكم لن تُقبَل إذا لم تتوفر النظافة فإن عليكم أن تكونوا نظيفين، الإسلام ربَطَ الأمر بحُكمٍ كهذا، فالنظافة ليست كلاماً فقط.
أصلًا الإسلام ليس أيٌّ من أوامره مجرّدَ كلام، فمن أهمّ مميزات الإسلام أن كلّ كلمة يقولها يكون لها وجهُ ارتباطٍ بالعمل.
ما أجملُ جُزءٍ في الإسلام؟
عدم تركِهِ للكلام في حالة نُصحٍ نظريّ، وربطُهُ قطعًا بالجانب العمليّ.
الأمر بعدم نسيان الله: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله﴾([25]) إياكم أن تنسوا الله، لا تكونوا مثل أولئك الغافلين، هُناك خمس صلوات في اليوم لكي لا ننسى.
شيخي ألا تكفي مرة واحدة؟ لا تكفي؛ لأنك ستنسى الله، لذلك هي خمس مراتٍ، ثمّ هناك الذكر.
والأخوّة بين المسلمين: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾([26])، أين الوجه العمليّ، كيف سنكون إخوة؟
أنتم تجتمعون مرة في السنة في الحجّ حيث يلتقي أغنى المسلمين وأصحُّهم، يعني أنه يأتي المُختارون والمُصطَفُون بانتقاءٍ طبيعي، وهُناك تتولّد إمكانيةٌ للحديث عن الإسلام.
كما أن الصلاة في المسجد مع الجماعة أيضاً شكل من أشكال الاجتماع، أيام الجُمَعِ اجتماعٌ، كلّ هذه المناسبات ربطها الإسلام بالجانب العملي.
كونوا نظيفين، النظافة أيضاً ربطها بالوضوء والغُسل، الإنسان عليه حتماً أن يغتسل، لا مهرب من ذلك، لذلك فالإسلام هو دين النظافة، والنظافة نصف الدين.
أوروبا لم تكن هكذا، لدى أوروبا اليوم أحواض استحمام ومغاسل، هم اليوم يغتسلون، ولكن ذلك بتأثير الإسلام، لم يكن لذلك وجودٌ من قبل، فكُلّ التغييرات التي تشهدها أوروبا حصلت بسبب الإسلام، والنهضة الأوروبية حصلت بفِعل العلوم الإسلامية على إثر الاطلاع على الإسلام.
إعادة التشكيل حصلت من خلال المقارنة بالإسلام، والاعتراضات التي كانت ضد الكنيسة قام بها من تعرّفوا على الإسلام، كذلك التطورات العلميّة حصلت بعد التعرّف على الإسلام.
يُبيِّن الدكتور سيجريد هونكه في كتابه "شمس الله تشرق على أوروبا" كيف حفّز الإسلام الغرب ونبّهَه، وكان مفيداً له فيما يتعلق بالجانب العلمي، ولهذا الكتاب ترجماتٌ تركيّة([27]).
والإسلام يولي قيمة كُبرى للعلم، ويُعطي نصيباً كبيراً للعالِم، فخُلفاء الأنبياء ليسوا رؤساء دُولٍ، بل هم عُلماء، "العلماء ورثة الأنبياء، وخُلفاء الرّسل"([28])؛ لأن كلّ شيء يكون بالعلم، اليوم إذا أردنا أن نفعل شيئاً فإننا نذهب إلى المختصّين فيه، لذلك فإن القائد هو رجُل العِلم؛ لأنه يولي أهمّية بالغة للعدالة.
"العدل أساس المُلك"([29])، المُلك هنا لا يعني الأبنية والحدائق والبساتين، وإنما يعني الحُكم والحاكميّة، أساس الحُكم والقيادة وقيام الدّول هو العدل، عليك أن تكون عادلًا، على حساب مَن؟ حتى ولو كان على حساب السّلطان نفسه.
كان خضر شلبي أوّل قاضٍ على إسطنبول، ومنطقة "قاضي كوي" التي تُعتبر الآن ضاحيةً في الطرف الآسيوي من إسطنبول مُلكٌ له، وقبره يقع بجانب الشارع الذي فيه سوق البزّازين (İMÇ)، خضر شلبي هذا حكَم على السلطان محمد الفاتح، لصالح من؟ على إثر دعوى تقدم بها معماريٌّ روميّ رأى القاضي أن الرومي على حقّ، وحكَمَ على فاتح إسطنبول السلطان محمد جُعل مثواه الجنة، هكذا يكون القاضي.
لماذا؟ لأن الأساس في الإسلام هو العدل، فالقاضي لا يخاف من رئيس الدولة، ولا من غيره.
مِمَّن يخاف؟ يخاف من الله.
وماذا يفعل؟ يُنفِّذ ما أمر به الله، ويُحقّق العدالة، يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين﴾([30])، لا تتخلّوا عن العدالة، واحكُموا بها ولو على أنفسكم، أو على أمهاتكم، أو آبائكم، أو أقربائكم، لذلك فإن المرء يشهد على نفسه، يذهب إلى القاضي، ويقول بأنه أخطأ، وبأن عليه أن يُحاكم. هكذا هو الإسلام.
جاء رجل غير مسلم مع الخليفة إلى قاضي الإسلام المشهور القاضي شُريح يتقاضيان عنده، نظر القاضي إليهما، أحدهما غيرُ مسلمٍ يرتدي نطاقًا، والآخر مسلمٌ.
هو يقول في نفسه: "ليت المسلم يكسب الدعوى"، في داخله يتمنى ذلك، ولكنه يستمع إلى القضية، فيرى أن المسلم على خطأ، وأن غير المسلم على حق، ثم يُبيّن أن الحق مع غير المسلم، ويُصدِر قراره بذلك.
ولكنّه ظلّ يذرف الدمع إلى آخر عمره، ويستغفر ويتوب قائلاً: "لماذا مالَ قلبي إلى طرفٍ قبل بدء المحاكمة؟ أيُّ قاضٍ أنا؟".
هذا هو الفهم الإسلامي للعدالة، لذلك فهو دينٌ كونيّ، هو دينٌ عالميّ وجب على جميع الأُممِ أن تُحبّه وتحترمه.
الحبّ والاحترام شيئان أساسيان في الإسلام، فالمسلم يُحبّ المسلمَ، ﴿أشدّاء على الكفار رحماء بينهم﴾([31])، أشداء على الكفار المعادين للإسلام، رُحماء فيما بينهم.
المسلمُ رحيمٌ ومُشفقٌ وصبورٌ مع جاره، ومع صديقه.
اليوم طالعتُ أمثلة عن ذلك، أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة يسترجي قائلاً: "اعفوا عنّي، لقد أخطأت". هذا الاحترام، وهذه المحبة موجودةٌ في الناس، وعلاقة المسلم بالمسلم بلغت هذا القدر من الصّميميّة.
في القرن الثالث عشر قدِمَ الرّحالة العربي المشهور ابن بطوطة إلى مدينة "دنيزلي"، كان يتكلم العربية، ولا يعرف التركية، كان ذلك العصر مُوافقاً لبداية عهد الباياتِ الجُدُد في أناضولِنا، وكان الناس حينها أصِيلين.
كان مع ابن بطوطة مركوبُه وجِمالُه، وهو في طريقة إلى "دنيزلي" مع القافلة التي تحمل هداياهُ، خلال الطريق ظهر له رجلٌ مُسلّحٌ ذو شارب طويلٍ، وسروالٍ واسع، وأمسك بزمام حصانِه، وكان يتلفّظ بكلام لم يفهمه، وبينما هو يحاول فهم كلامه إذْ برجُلٍ آخر ذو شاربٍ طويل أيضاً يتجه نحوه، ويُمسك بالطرف الثاني من الزّمام، فدخل الرجلان في مجادلة كلاميّة، وطار عقلُ الرّحالة.
فالمُمسكان بزمام حصانِه مُسلّحان، وأموالُه وراءه، المال قطعةٌ من الروح، كان يخشى أن تذهب روحُه، ويذهب مالُه، لكن اتّضح بعد ذلك أن الرجل الذي أمسك بالزمام أولًا فعلَ ذلك لكي يظفر باستضافته حيث كان يقول له: "يبدو أنكم غريبون، يبدو هذا واضحاً من ثيابكم، انزلوا في ضيافتنا".
أما الرجل الآخر فكان يقول: "أليس هذا عيباً؟ هذا الحيّ حيُّنا، ويجب أن نستضيفهُ نحن، كيف يُمكن لك أن تستضيفه وأنت فردٌ من حيٍّ آخر؟!".
كان هذا هو سبب المجادلة، والآخر يقول: "ماذا أفعل لك؟ أنا رأيتُه أوّلاً، الضيف يحلّ عند أوّل مَن يراه".
ضيفُ الله، هكذا هو حبّ الإنسان لمن لا يعرفُهُ من الناس، والحيوان، والعصافير، والطّير، والخدَمِ، وغيرهم، بعضُهُم أنشأ وقفًا لمساعدة الخَدَم الذين يكسرون الأطباق أثناء غسلها لكي يُسدّدوا أثمانها، وبعضُهم أنشأ وقفًا لمُعالجة اللّقالِق التي كُسرت أجنحتها... دينٌ مُحِبٌّ لجميع الناس، ومحبَّةٌ من النّاس مبذولةٌ للبيئة، ولجميع المخلوقات؛ هذا هو الإسلام...
في القرن الثامن عشر جاءت السّيدة ماري وورتلي مونتاكو، أظن أن زوجها كان سفيرًا إلى إسطنبول، وتعرّفت على العثمانيين، طبعًا كانت في مهمّة سياسيّة، وصدرت جميع مراسلاتها في شكل كتابٍ تُرجِم للتركية تحت عنوان: "Türkiye Mektupları" (مُراسلات تركيا)([32]).
كتبت إلى صديق لها في بريطانيا النّص التالي:
"أخي، قبل أن آتي إلى هنا كنت أظن بأن الحرم العثماني مثل الحبس والسجن، وكنت أتصور الأمر كذلك في ذهني، فاتَّضح لي بأن الحرم مكانٌ ظريف جداً، ولطيف وذو ألوانٍ، في كُلّ بيت وقصرٍ هناك حرمٌ يُسمّى "سلاملك" و"حرملك".
لقد كنت فيما مضى أعتقد أنهم يضعون النساء في أقفاصٍ، ويجعلونهنّ تحت قوالب مثل الزنازين، في حين أن الأمر مختلف تماماً، فهم أصحاب أذواق عاليةٍ، ومحترمون جدّا"([33]).
ثم إنها تعرّفت على السلطانة فاطمة، فأحبّتها كثيراً، وأُعجبت بها، قالت لها بروحِ مُداعبةٍ إنجليزية: "أنت يا سيدتي جميلة جداً، لو كنت في بريطانيا لالتفّ حولك الرجال مثل الفَراش"، فتوقفت السلطانة في كلامها قليلاً، هذا الذوق الإنجليزي ليس ذوقاً إسلاميًّا، ثم قالت لها بشكل هادئ: "لا أظن ذلك، لو كانوا يعرفون قيمة الجمال لما أرسلوكِ إلى هنا".
تقول: "يا أخي، انظر إلى هذه النباهة وهذه الظرافة، إنهم أناس بهذا القدر من النباهة والفطنة والظرافة"، لقد كانت السلطانة فاطمة شاعرة، وصاحبة خيرٍ وحسنات([34]).
أنا شديد الإعجاب بهذه السلطانة "بزم العالم"، يا لجمال الآثار التي تركتها، الإسلام دين الحبّ والاحترام، فهو يُشجّع على خدمة جميع الناس حتى غير المسلمين منهم.
سأل صحابيٌّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، أنا أسحب الماء من البئر بألف مشقّة، وتتورّم يدي وتنتفخ عندما أسحب الحبل، ولكن بينما تشرب إبلُنا الماء تأتي إبِلٌ سائبةٌ، وأخرى جريحة وجرباء؛ لترِد الماء أيضاً ـ في السّعودية الماء ثمين، يُسحب من الآبار ويُصبُّ في المشارب ـ هل لي من ثوابٍ على ذلك؟ فأجابه نبينا صلى الله عليه وسلم: "لكَ ثوابٌ؛ لأنها أيضاً لها أرواحٌ وأكباد، هي أيضاً تحترق أكبادها، لذلك فإن هناك ثوابًا في ذلك".
لقد أولى الإسلام أهمية كُبرى للجماعة، والمجتمع، والمعيّة، وفي ذلك ثوابٌ عظيم جدّاً.
فالصلاة مع الجماعة أكثر ثوابًا من الصلاة في البيت بسبعٍ وعشرين درجة، الوحدة والمعيّة رحمةٌ، والفرقة عذاب، الفرقة والاعتزال، وعدم التعلّق والافتراق، والأنانية والإفساد وغيرها حرامٌ في الإسلام.
الحياة المجتمعية والوحدةُ والمعيّةُ أساسٌ، بدلًا من الانسحاب إلى جنبٍ والعيش بانفراد.
يقول: المؤمن الذي يخالط الناس ويخدمهم ويصبر على أذاهم خيرٌ من المسلم الذي ينسحب إلى جهةٍ ويسعى إلى راحته.
دينُنا يقول: "خيرُ الناسِ أنفَعُهم للناس"([35])، لذلك فالإسلام هو كنزٌ بحثت عنه المجتمعات، ولم تجدهُ، هو دينٌ حرَّمَ الفتنة والفساد، والتّضارُب والجدال، وكلّ ما من شأنه أن يُقوِّض المحبّة، الغِيبة، والإشاعات، والسعي بالنميمة، والفُحش في القول، والفرقة، والعِراك... كلُّها حرام.
المسلم لا يرفع سلاحاً في وجه مسلمٍ، والمسلم لا يضرب المسلم، ولا يُروِّعُه، حرام.
سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول بأن الفتن ستظهر في آخر الزمان، فيقولون: يا رسول الله! ماذا نفعل حينها؟ فيقول: "الزموا بيوتكم، ولا تشاركوا فيها، فإن دخلت عليكم بيوتكم وبين المسلمين فكونوا كخيرِ ابنَي آدم" ـ أيُّهما خير أولاده؟ الذي قُبلت عبادتُه، وقُتِل ـ يقول: "لا تكونوا مثلَ القاتل، كونوا الطرفَ المظلومَ"([36]).
يعني هو يقول: لا ترفعوا أيديَكم، ولا تتضاربوا فيما بينكم، هذه هي تربية الإسلام، أما المُمارسة فشيءٌ آخر؛ لأن الإسلام جميلٌ، والمسلمون مُقصّرون جدّاً.
لقد أولى الإسلام أهمية بالغة للأخوّة، والأخوّة أيضاً عبادة.
يقول الإمام الغزالي عن الأخوة: "أجمل العبادات التي هي من جنس العاداتِ المُصاحبةُ".
العبادات تنقسم إلى قسمين:
1 - العبادات المُعتادة التي نعرفها: مثل الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة.
2 - العبادات التي هي من جنس العادات، وأجملها الحبّ في الله، والمصاحبة في الله، وللتّزاوُر في الله ثوابٌ عظيم جدّاً، يرِدُ أنّه إذا تزاورَ شخصان في الله فإنهما ينَالانِ محبة الله.
بدلاً من السعي إلى عدم نسيان الإسلام يجب أن نسعى إلى أن يترسَّخ الإسلامُ في حياتنا حتّى تعُمّ الأخوّة، ويعُمّ الحبّ. فنحن ليس لدينا أيُّ مشكلة مع الأعراق، بل إننا نعيبُ على الأمريكيّين أنهم يفرّقون بين الأسود والأبيض والزنجي وغيرهم، الناسُ إخوةٌ، والمؤمنون بعضهم إخوة بعض، كلُّهم من آدم، وكلُّهم سَواسِية في الإيمان، وعند الله.
والسعي في خدمة الناس من أعظم الثواب، خيرُ النّاس أنفعُهُم للناس، هذا هو الدين الذي نحن أصحابُه.
نحن نعيش في عصرٍ تتطوّر فيه الأحداث بشكل سريع جدّاً، وقد حمّلَنا الله وظائف جديدة، وإمكانات جديدةً في زمنٍ يحتكّ فيه الناس بعضهم ببعض بشكلٍ كثيفٍ جدّاً.
الحدود تنفتحُ، وروسيا تقول: "الآن تُركيا واحدة من أكبر أصدقائنا"، والأقوامُ المسلمون في روسيا يقولون: "تركيا أخونا الأكبر"، كُلُّهم يريدون مِنّا المُساعدة، وبحمد الله لطالما جعل منّا هذا الإيمان على امتداد التاريخ دولةً أولى، ودولةً مُنظِّمَةً على رأس جميع الدّول، ودولةً واقفةً بوجه المظالم.
عندما كتب السلطان سليمان القانوني إلى فرنسا بأن "أخرجوا الملك الفلاني من السجن" أخرَجُوهُ.
السّلطان الفلاني يقول: "في ذلك المكان ظهر شيء اسمُه الرّقص، وقد سمعت بأن الرجال والنساء أثناءهُ يُعانق بعضهم بعضاً، لا تقوموا بقلّة الأدب هذه مرّة أخرى"، فيوقفون الرقص، هو يمنع الظّلم، وإذا حصل في مكانٍ ما اعتداءٌ على شيء ما فإنه يُرسلُ بالمساعدة إلى هناك.
الحمد لله أنّنا مسلمون، حيث أوجدنا الله في هذه الدنيا مُنعّمينَ كمُسلمين في بلدٍ مُسلم، ومن أبوين مسلمين، نسأله تعالى أن يجعلنا ممَّن يعرفون قيمة وقدر هذه النعمة.
إن دواء بلايا القرن العشرين يكمُن في الإسلام كما أن الأساسات المتينة للقرون اللاحقة تكمُن في مبادئ الإسلام، ولدينا أفكار وتجارب ومعلومات وأحاسيس يمكن أن نمنحها للناس في هذا العالم، وهي موجودة في الإسلام.
نسأل الله أن يمُنَّ علينا بمعرفة قيمة وقدر الدين الذي ننتسب إليه، وبإدراك أوجُه جمالِهِ، وبأن نكون مسلمين بحقٍّ، وأن يجعلنا كمُسلمين أنفعَ النّاسِ، وأكثرهم خدمة للإنسانية، وأن يجعلنا نقف بين يديه كعبادٍ أدَّوا ما عليهم، فشرّفهُم بجنّته وجمالِه، وأكرمهُم وأحبّهم.
رضي الله عنكم جميعاً.
* نصّ المؤتمر المنعقد بتاريخ 11 شباط 1992: İslam, İstanbul: Server İletişim.
([1]) المائدة (Mâide): 44.
([2]) نوح (Nuh): 5.
([3]) نوح (Nuh): 6.
([4]) نوح (Nuh): 7.
([5]) طه (Nuh): 94.
([6]) المائدة (Mâide): 72.
([7]) البيّنة (Beyyine): 3.
([8]) الأعلى (A’lâ): 18-19.
([9]) Islam: Our Choice, Karachi: Begum Aisha Bawani Waqf, 1970.
([10]) الصّف (Saff): 6.
([11]) النساء (Nisâ): 48، 116.
([12]) يس (Yâsîn): 60.
([13]) الفرقان (Furkan): 43.
([14]) حول الرواية التي نُقِلت عن تميم الداري رضي الله عنه انظر: مسلم (Müslim)، الإيمان (Îmân)، 95؛ أبو داود (Ebû Dâvûd)، الأدب (Edeb)، 67، حديث رقم (hadis no): 4944؛ النّسائي (Nesâî)، البيعة (Bey’at)، 31، حديث رقم (hadis no): 4197، 4198؛ أحمد بن حنبل (Ahmed b. Hanbel)، ج 4، 102، حديث رقم (hadis no): 16982، 16983، 16987؛ ابن حبّان (İbni Hibbân)، ج 10، 435؛ الطبراني (Taberânî)، المعجم الكبير (el Mu’cemu’l-kebîr)، ج 2، 52، حديث رقم (hadis no): 1260، 1261، 1262.
([15]) وردت هذه العبارة في المادة رقم 19 من المواد المائة الأولى التي تحتوي على المبادئ العامة لمجلة الأحكام العدلية.
([16]) الشخص الذي ورد ذكر اسمِه هو نجاتي لوغال باي.
([17]) الشخص الذي ورد ذكر اسمِه هو الحافظ يوسف جميل أرارات. لمعلومات أوفى عنه انظر: Mahir İz, Yılların İzi, İstanbul 2003, s. 332-361.
([18]) الأعراف (A’râf): 28.
([19]) حول الرواية التي نُقلت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انظر: الترمذي (Tirmizî)، البيوع (Buyû)، 4، حديث رقم (hadis no): 1209 (حسن غريب)؛ الدارمي (Dârimî)، البيوع (Buyû)، 8، حديث رقم (hadis no): 2539؛ الدارقطني (Dârekutnî)، ج 3، 7.
([20]) حول الرواية التي نُقلت عن عمر رضي الله عنه انظر: الطبراني (Taberâni)، المعجم الأوسط (el-Mu’cemü’l-evsat)، ج 1، 112.
([21]) حول الرواية التي نُقلت عن ابن عباس، انظُر: الترمذي (Tirmizî)، فضائل الجهاد (Fezailü’l-cihâd)، 12، حديث رقم (hadis no): 1639.
([22]) حول الرواية التي نُقلت عن عبد الله بن مسعود انظر: أحمد بن حنبل (Ahmed b. Hanbel)، ج 1، 399، حديث رقم (hadis no): 3789؛ مسلم (Müslim)، الإيمان (Îman)، 39، حديث رقم (hadis no): 147؛ الترمذي (Tirmizî)، البر (Birr)، 61، حديث رقم (hadis no): 1999؛ ابن حبان (İbni Hibbân)، ج 12، 280، حديث رقم (hadis no): 5466؛ الحاكم (Hâkim)، المستدرك (Müstedrek)، ج 1، 78، حديث رقم (hadis no): 69.
([23]) حول الرواية التي نُقلت عن السيدة عائشة رضي الله عنها انظُر: الطبراني (Taberânî)، المعجم الأوسط (el-Mu’cemü’l-evsat)، ج 1، 275، حديث رقم (hadis no): 897؛ أبو يعلى (Ebu Ya’lâ)، ج 7، 349، حديث رقم (hadis no): 4386؛ البيهقي (Beyhakî)، شُعب الإيمان (Şuabü’l-îmân)، ج 4، 334-335، حديث رقم (hadis no): 5313-5314.
([24]) Ogier Ghiselin de Busbecq, Kanuni Devrinde Bir Sefirin Hatıratı: Türk Mektupları, Ankara: Serdengeçti Neşriyat, 1953; Türk Mektupları, çev. Derin Türkömer, İstanbul: Doğan Kitap, 2005.
([25]) الحشر (Haşr): 19.
([26]) الحجرات (Hucurât): 10.
([27]) Sigrid Hunke, Avrupa'nın Üzerinde Allah'ın Güneşi, çev. Hayrullah Örs, İstanbul: Altın Kitaplar Yay., 2001 ve Avrupa'nın Üzerinde Allah'ın Güneşi, çev. Servet Sezgin, İstanbul: Bedir Yay., 1997.
([28]) لم يُعثر على حديثٍ بهذا اللفظ، لكن جُزءَ "العلماء ورثة الأنبياء" ذُكر في رواية طويلة نُقِلت عن أبي الدرداء رضي الله عنه في: أحمد بن حنبل (Ahmed b. Hanbel)، المسند ج 5، 196، حديث رقم (hadis no): 21763. انظُر: أبو داود (Ebû Dâvûd)، العلم (İlim)، 1، حديث رقم (hadis no): 3641؛ الترمذي (Tirmizî)، العلم (İlim)، 19، حديث رقم (hadis no): 2682؛ ابن ماجه (İbni Mâce)، الافتتاح (İftitâh)، 17، حديث رقم (hadis no): 223؛ ابن حبان (İbni Hibbân)، ج 1، 289، حديث رقم (hadis no): 88.
نُقِل عن عليّ رضي الله عنه رواية بهذا اللفظ: "العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورشة الأنبياء". ينسب عليّ المتّقي هذا الحديث إلى الديلمي، انظُر: كنز العمال (Kenzü’l-ummâl)، ج 10، 235، حديث رقم (hadis no): 28677.
([29]) لم يُعرف صاحب هذه المقولة. وقد ذُكرت في بعض المؤلفات من قبيل الأقوال الحسنة، انظُر: القلقشندي (Kalkaşandî)، صبح الأعشى في صناعة الإنشا (Subhu’l a’şâ fî sınâati’i-inşa)، ج 11، 137.
([30]) النساء (Nisâ)، 4/135.
([31]) الفتح (Fetih): 29.
([32]) Mary Wortley Montagu, Türkiye Mektupları: 1717-1718, çev. Aysel Kurutluoğlu, Tercüman Gazetesi, İstanbul, s. 77-81, ts.; Şark Mektupları, çev. Ahmed Refik, İstanbul: Timaş Yayınları, 1998.
([33]) نفس المصدر، ص 132، 133.
([34]) نفس المصدر، ص 116، 117.
([35]) حول الرواية التي نُقلت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، انظُر: الطبراني (Taberânî)، المعجم الأوسط (el-Mucemü’l evsat)، ج 6، 58، حديث رقم (hadis no): 5787؛ القضاعي (Kudâî)، مسند الشهاب (Müsnedü’ş-şihâb)، ج 1، 108، حديث رقم (hadis no): 129، ج 2، 223، حديث رقم (hadis no): 1234؛ ابن عساكر (İbni Asâkir)، تاريخ دمشق (Târihu Dımaşk)، ج 8، 404.
([36]) رُوِي عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه أنّه قيل: "تكون من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا" فقالوا: "ماذا نفعل حينها؟" فقال: ... ابن أبي شيبة (İbni Ebî Şeybe)، المُصنّف (el-Musannef)، ج 8، حديث رقم (hadis no): 37430؛ أبو يعلى (Ebû Ya’lâ)، المسند (el-Müsned)، ج 3، 92، حديث رقم (hadis no): 1523؛ الطبراني (Taberânî)، المعجم الكبير (el-Mu’cemü’l-kebîr)، ج 2، 177، حديث رقم (hadis no): 1724؛ الهيثمي (Heysemî)، معجم الزوائد (Mecmaü’z-zevâid)، ج 7، 574، 591.
مقالة
“الإسلام”
البروفيسور محمود أسعد جوشان