البحث عن الدين والمعتقَد الحقيقيَّين*
البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)
لقد اتَّضح لي من خلال جميع زياراتي للبلدان المختلفة أنّ الدِّين مؤسسة مُهمّة جدًّا، وحيويّة جدًّا، لا يمكن لإنسانٍ أن يستغني عنها، ولا أن يستعيض عنها بغيرها، شيء قيِّمٌ جدّاً، واحتياجٌ كبير جدّاً، أنفقت المجتمعات في ميدانِه المليارات والتريليونات، وإلى الآن ما زال يشهد استثمارات جديدة، وما زالت المبالغ الضّخمة تُرصَدُ لأجله.
وعلى امتداد التاريخ دأبت كلُّ المجتمعات على إيلاء أهمّية بالغة للدِّين، وعلى بناء حياتها حوله، وفي محيطه.
ومن المُلاحظ أنّ المجتمعات الحديثة أيضاً لم يتغير فيها هذا الوضع إطلاقاً، فبالرغم من مُعاداة الدّول الشيوعيّة للدِّين منذ النصف الأول من القرن العشرين، ومحاولاتهم طمس معالمه، وسعي بعض الفلاسفة إلى إيجاد قِيَمٍ مُستحدَثة تقوم مقام القيم الدّينيّة، إلَّا أنهم لم يظفروا بغير الخُسران والهزيمة، وقد بدأت الآن مُحاولات العودة إليه.
لا شيءَ يمكن أن يحُلَّ محلَّ الدّين؛ لأنَّ له مكاناً خاصّاً به، إنه وراء العلم، يُجيب على الأسئلة التي تنبُع فِطريّاً من عقل الإنسان، وأعماق رُوحِه، يُلبّي احتياجاتِه، ويُطمئِن فُضُوله، ويُسكن خوفه وجزعه، ويمنحُه السّكينة والسّعادة.
لذلك وَجَب أن لا يُرفضَ الدّين، بل بالعكس يجب أن يتم إحياؤه بطريقة إيجابية وناجعة مفيدة للمجتمع، ونافعة لصحّة الإنسان الروحية والبدنيّة، ومتناسبة مع مستوى العلم وإنجازاته في زماننا، ولكن بشرط أن يكون ذلك بشكل لا يتصادم، ولا يتعارض مع منافع الإنسان الروحية والبدنيّة، ومع العقل والعلم والحكمة والخِلقة والطبيعة والمجتمع... وأن يكون ذلك حتماً بالاستماع لصوت العقل والقلب والعلم، واعتمادهم دليلًا لنا.
الإنسانية حتى في عصر الفضاء هذا لم تصِل بعدُ بتمامها إلى مرحلة الرُّشد من حيث الدّين والاعتقاد، بل هي في حالٍ مُثيرٍ جدّاً للشّفقة، حيث إن كثيراً من الدول المتقدّمة والحديثة ما زالت مُتخلّفة وبدائيّة بشكل مُثير للدّهشة من حيث الدّين والاعتقاد.
فاليابانيون مثلاً يعبدون الشّمس، ويُقدّسونها لاعتقادهم بأن أباطِرَتهُم أبناءٌ لها.
وفي الهند التي يوجد بها المئات من المعتقدات الباطلة مجموعات كبيرة من الناس تعبُد البقر.
كما أنّ اليهود لا يؤمنون بالآخرة، والمسيحيون ينظرون إلى عيسى عليه السلام الذي هو بشرٌ مثلُنا على أنّه ابنُ لله، ويشيرون بإشارة الصّليب أمام رمز لجسدٍ مُثبّتٍ على صليب.
وبعض المجتمعات المتخلّفة تعبد أفعى الكوبرا، والنّار، والأصنام، والشيطان.
أمَّا المجتمعات المتقدّمة فتنتشر فيها مذاهب وعُلماء جُدُد.
أمام هذا الوضع المُؤلم ابتعد كثير من النّاس المعاصرين عن الدّين كرَدّةِ فعلٍ على ذلك، وانجرّوا إلى اللّاإيمان والإنكار والإلحاد، وتحوّلوا إلى مذاهب العدمية والفوضوية والشيوعية والأبيقورية والوجودية واللذة وغيرها من المذاهب.
أيُّ الطُّرُق هو الطّريق الصّحيح؟ وبأي عروة يجب أن نستمسك؟ طريق الإنكار مسدود، فهو يعني أن تصُدَّ أذنيك عن سماع صوت العقل والعلم والقلب، وأن تُدير ظهرك للفلسفة، وأن تترك الأسئلة بلا إجابات، وأن تَدُسَّ رأسك في التراب حتى لا ترى الحقائق.
المصادر والكُتب الأصليّة للأديان السّماويّة الكُبرى التي جاء بها الأنبياء الحقيقيّون لم تصل إلينا محفوظةً وحقيقية وسليمة وموثوقة، بل فسدت وتم تحريفها، هذا الأمر يؤكِّدهُ حتى مُتخصّصو تلك الأديان ذاتها، كما أن حياة أولئك الأنبياء وذكرياتهم وأماناتهم لم تُحفظ جيداً مع الأسف ، وضاعت مع مرور العُصور، ودُفِنَت في غياهب التاريخ، حتى إن قبورهم لا تُعرف مواضِعُها بشكل قطعيٍّ.[1]
في مقابل ذلك عند العودة إلى دين الإسلام سنجد أن الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء يعترفون بأن الإسلام يوافق العقل والمنطق والعلم، يولي أهمّيّة وقيمةً لوجود الإنسان ولصحته النفسية والبدنية، حدّد واهتمّ منذ عصورٍ بالحريّات والحقوق الأساسية التي وصل إليها الغرب حديثاً، احتوى على أحكام ذات نفع عظيم جدّاً لحياة الفرد والمجتمع، تستهدف رسالتُه جميع البشر، ويُنذرُهم جميعاً في كتاب إلهي، ويؤاخي بينهم، يرى بأن جميع البشر مُتساوون، نساءهم ورجالهم، أبيضهم وأسودهم، فقيرهم وغنيّهم...، يدعو إلى مجتمع حُرٍّ لا تمييز فيه ولا طبقيّة ولا استغلال، يُقدّم معلومات مُهمّة جدّاً ومقبولة جدّاً عن ماهية الإنسان، وعن وجود الخالق، ووحدانيّته، وصفاته، وعن الحياة الآخرة.
يمكن أن نفهم من خلال الأدلّة التاريخية والدّينية والعقلية أنّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو آخر أنبياء الله تعالى، حيث حُدِّدت جميع أقواله وأعماله بأدقّ تفاصيلها من خلال طُرق علميّة دقيقة، ثمّ حُفظت منذ زمانه باهتمام واعتناء كبيرين، فنحن نعرف عن حياته الاجتماعية والخاصة، وعن محيطه تفاصيل دقيقة كما لم يحصُل لبشر آخر من قبل، ولا من بعد.
فشعره، وشعر لحيته، وأثوابه محفوظة للذكرى في كثير من المساجد، كما أن أصل الرسائل التي أرسلها للدول المجاورة لدعوتهم إلى الإسلام معروضة في المتاحف، وأحاديثه الشّريفة جُمِعت في مجموعاتٍ من مئات المُجلّدات تُقرأُ ويُعملُ بها.
وأجمل من كلِّ ذلك الكتاب الإلهي الذي أوحِي إليه قرآنا كريمًا، دُوِّنَ منذ لحظة نُزوله، ولم يتغيّر فيه أو ينقص منه أيّ حرف، انتشر في الآفاق، وبلغ أيادي كلِّ من اهتمّ لأمره...
أيُّ مكسبٍ للعلم وللدّين هذا؟ إنه شيء مُفرحٌ، وباعثٌ على الحماس بالنّسبة للإنسانية، إن قِيَمًا ثريّة ومادّة تاريخيّة مُهمّة كهذه لا يمكن العثور عليها في أي مجال آخر بهذه الوفرة والاتّساع.
لقد حان الوقت الذي يجب فيه على الإنسانيّة جمعاء أن تُدقّق النّظر في هذه المادّة الفريدة؛ لأنّ البحث في نتائج ماهية هذه المادّة، وكُنْهِها، وغايتها، وتأثيرها، وفائدتها سيكون دواءً لكثير من أدْوَاءِ عصرنا، ووسيلةً لإيجاد العديد من الحلول.
وبالتالي فإن من الواجب على الإنسانيّة أن تقوم بهذه الخطوة؛ لتجد الدّين والمُعتقد الحقيقيّين الخالِصيْن، ولتجد حلولاً صحيحة لمشاكل الحياة، ولتنجُوَ من الباطل والخرافات.
ونحن أيضاً علينا أن ندعم هذه المساعي بأقصى ما أوتينا من قوّة، وأن نجعل الناس ينظرون إلى العصر الحالي نظرة إسلامية، وأن نكون خير دليل للنّاس التائهين.
* مجلة "العلم والفن والترياق ـ İlim ve Sanat ve Panzehir"، المقالة 3، İstanbul،Server İletişim، 2015 (ص: 72 – 74).
مقالة
“البحث عن الدين والمعتقَد الحقيقيَّين”
البروفيسور محمود أسعد جوشان