علاج للفوضى ودعوة للإيمان*
Prof. Dr. M. Es’ad Coşan (Rh.a)
في حين أن الجانب المادي للإنسان وحتى صحّته البدنية مرتبطة بشكل كبير جدّا بالاتزان المعنوي وبسكون الروح وطمأنينتها. بل إنّ كلّ نجاحات الإنسان في العالم الخارجي هي نتيجة لقوّته المعنويّة.
وعليه فإنّ أهمّ الشروط التي تجعلنا مفيدين لأنفسنا ولمحيطنا هي بناء عالم داخليّ منير ومطمئنّ وسليم.
هذا الاتزان الداخلي والسلامة الروحية والطمأنينة والسعادة لا يمكن تحقيقها إلا بالإيمان، وليس بالمال والمادّة كما يتخيّل أغلب الناس. ودليل ذلك أنّ رؤية الفقير السعيد والغني الكئيب أمر مطرد في كلّ الأزمان. لذلك قال يونس [أمره]:
كثير من الناس تعاني ذواتهم من الفقر
ولا تنشرح صدورهم رغم وجود الكثير من الكائنات 1
بالإيمان تستنير عوالمنا الداخلية وبالإيمان تتمتّع أرواحنا بالصّحّة والحيوية. فالمؤمنون يبنون علاقات ودّية وطيّبة مع بيئتهم ويسعون لأن يكونوا مفيدين للمجتمع ويتحلّون بالتسامح. وقد حدّد الشاعر أنّ مصدر التسامح هو الله، حيث قال:
أمعن النّظر
وسلّم للإله تسليما كاملا
تسامح مع المخلوقات
لأجل الخالق
diyerek hoşgörünün bu kaynağını isabetle belirtmiştir.
الإيمان يورث المحبّة، والمؤمن ينظر إلى الموجودات والأحداث بعينٍ مغايرة، ويقف أمام مصاعب الحياة بثبات أكبر، يستوعب النظام الذي في السماوات وفي الأرض فينبهر أمام ما فيها من جمال، ويشاهد بحبٍّ ما في [الأرض] من طيور وأزهار ومياه جارية وجبال فيطرب ويقول:
أناديك يا مولاي مع الجبال والأحجار
أناديك يا مولاي في الأسحار مع الطيور
مع أسماك البحار وغزلان الصحاري
سأكون درويشا يا مولاي لأناديك يـ "يا هو".2
With the fish in the seas and the gazelle in deserts
ثمّ يعلم (المؤمن) أنّ الحياة الدّنيا امتحان وأنّه سيُحاسَب على أفعاله يوما ما، فيُراقب عمله ونواياه، ويسعى إلى ملازمة العدل وتجنّب الظلم، ويسابق إلى الخيرات ويحذر أذيّة بيئته، ويفكّر قائلا:
لم آتي من أجل الادّعاء
فعملي من أجل الحبّ
القلوب بيت الحبيب
وقد جئت لبناء القلوب... 3
يتعلّق بالله بالحبّ ويسعى إلى نيل مرضاته وحبّه، ويسلك طريق التّعرّف على أحبّاء الله ومصاحبتهم والابتعاد عن أعدائه. ويتعرّف على الإنسان المثال المتفرّد الذي بعثه الله؛ رسول الإله، جميل الوجه، صادق القول، صاحب الأخلاق العالية، فيقتدي به في أقواله وأفعاله. ثمّ يُنمِّي معلوماته الدينيّة ويطبّق ما تعلّمه. يقف في وجه الظّلم ويحمي وطنه وقومه. وعندما تقتضي الضرورة يضحّي بنفسه ليخوض في هذه الأرض العارية كأنّما يخوض في حديقة أزهار ولينال الشهادة. لا يعارض نظام المجتمع وثباته، بل على العكس من ذلك، يحميه ويُحييه.
حصّلة، الإيمان يجعل من الإنسان إنسانا بل سلطانا، ويوجّه المجتمع إلى الجوانب المفيدة وإلى الفضائل ومعالي الأمور. وهذا الأمر هو أمرٌ مرغوب من الفرد ومن المجتمع.
عليه فإن علينا كمُجتمعٍ أن نعطي أهمّية للإيمان وأن نزرع بذوره وبذور المعنويات ومشاعر الحبّ في القلوب منذ مرحلة الطفولة وأن نرعاها (تلك البذور). والتعليم المتعلّق بهذا الطريق يأتي قبل العلوم البحتة وقبل الفنون والمهارات الماديّة، يجب أن يكون قبلها. لأنّ العلوم والمهارات التي لا إيمان فيها تكون آلة للشرّ. والعلوم البحتة لطالما أدّت في كلّ زمان ومكان إلى الغرور وادّعاء المعرفة أو إلى سوء الاستعمال. وقد أشار الشاعر إلى هذه النقطة الدّقيقة عندما قال:
الوصول إلى الرفعة من خلال العلم الكسبي
ليس سوى أمرا مستحيلا
ليس سوى أمرا مستحيلا
ليس سوى أمرا مستحيلا4
حسب الدراسات، تولي الدول الحديثة المتطورة أهمّية بالغة وأولويّة للمعنويات في تعليمها الوطني، وتؤكّد على أن إهمال هذا الموضوع يؤدي إلى ظهور أشخاص غير متّزنين وميّالين للفوضى والجريمة وأصحاب مشاكل وغير منضبطين بضوابط المجتمع.
يجب أن لا يخاف [المؤمن] من قوّة المشاعر الدينية وازدياد عدد المؤمنين. فهذا الخوف هو أوهام بثّها أعداؤنا الخارجيون الذين انحنوا أمامنا لقرون من الزمن. وسينجو مجتمعنا [من ذلك] وسيرتقي بفضل مجهودات المتديّنين الحقيقيين مُحبّي الوطن الصادقين. هذا الأمر تؤيّدُه؛ عصور تاريخنا المشرقة والرّجال العظام الذين تربّوا فينا وامتُدِحنا بسببهم من أمثال ألب أرسلان والفاتح ويونس وغيرهم الآلاف من عظماء الإسلام.
إن الاعتقاد الصحيح إذا افتقده الأفراد فإن مكانه لا يبقى شاغرا، حيث يمتلء إمّا بالخرافات أو بأنظمة التفكير غير القومية. فيتمزق المجتمع بفعل التصرّفات المعوجّة من قبيل الكِبر والبغض والانتقام والظلم واللاعدل. وأغلب الاضطرابات التي يعيشُها قرنُنا هذا إنّما ظهرت بسبب عدم تمكّن قادة المجتمع من رؤية تلك الحقيقة (حقيقة فقدان الاعتقاد الصحيح) أو بسبب عدم تمكّنهم من أخذ التدابير اللازمة في وقتها.
وعليه فإننا كأفراد وكمجتمع يجب علينا –من دون تضييع للوقت- أن نسعى إلى أخذ التدابير التي تحقّق السلامة الروحيّة والطمأنينة الداخلية.
لقد جعل دينُنا الجليل الناصع من كلّ أوامره الجميلة مرتبطة بالعديد من وسائل التطبيق السهلة والبسيطة، وبذلك جعل من تطبيق الجميع لتلك الأوامر ممكنا من خلال جهد قليل. حيث ربط نظافة البدن -مثلا- بالوضوء والغسل، والقرب من الله في كلّ وقت من اليوم بعبادة الصلاة والذكر، والمساعدات الاجتماعية بالزكاة والصدقة، وروح الوحدة والتكافل بفرض الجماعة والجمعة والحج، ومعاني الصبر والتحمّل والتفكير والتأثّر والاحساس بالفقير بفرض الصّوم.
والحال كذلك بالنسبة للهداية والتوبة، أي العودة إلى الطريق القويم. ولذك تمّ إعداد جملة من الفُرص التّطبيقية. وشهر رمضان الكريم هو أهمّ تلك الفُرص.
يُنبَّهُ الفرد والمجتمع المسلم باقتراب رمضان على امتداد شهريْ رجب وشعبان، من خلال مناسباتٍ كقنديل الرغائب وقنديل البراءة وليلة المعراج، فيُشجَّعُ بذلك على التوبة والعبادات والصّوم أكثر. وفي النهاية يأتي رمضان مُنيرا ومتلألأً، وفيه تختبئ ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أي الليلة التي تعدل عُمُراً كاملا. وعبادة الصوم ذات الألف حكمة ومصلحة وفضل ستٌلينُ القلوب وتُزيّنُ الفرد بأنصع المشاعر وتُقرّبه إلى مرضاة الله تعالى. وستُثير الانتباه إلى تغيُّرٍ في المجتمع من خلال العبادات والمآذن والقناديل والأناشيد الدينية والتراويح. في خضمِّ هذا الحبور الروحاني والمعنويّ لا شكّ في أنّ ترك الإهمال والكسل والتجرّد من الشرور والتطهّر منها أسهل بكثير منه في بقيّة الأوقات.
يا أيها الصديق الذي غاص في بهرج الدّنيا وأهمل احتياجاته الروحية، هاهو ذا باب التوبة مفتوح على مصراعيه، وإمكانية الرجوع والصحوة بين يديك. أحسِنْ استغلال فرصة رمضان، وعُد إلى الله وإلى المعنويات وإلى السعادة الحقيقية.
وعُد إلى الله وإلى المعنويات وإلى السعادة الحقيقية. مهما كان الوضع الذي أنت فيه، عُد وتعال سواءً كُنت كافرا أو مجوسيّا أو وثنيّا، عُد وتعال حتى وإن كُنت انتكست عن توبتك مائة مرّة، تعال لأنّه لا مكان لليأس أمام رحمة الله الواسعة.
Çünkü Allah'ın engin rahmeti yanında umutsuzluğa yer yoktur.
*
إذا شربت من هذا الماء يا صديقي، فإنّك لن تظمأ بعدها أبدا...
ستُصبح في حالٍ... لا تبكي معها، ولا تظمأ5
* Lead Articles 4: The Ideal Path, Istanbul: Server Communication, 2016, p. 41-45.
1. See. The Divan of Yunus Emre, II, II, 460.
2. See. The Divan of Yunus Emre, IV, IV, 240.
3. The Divan of Yunus Emre, II, II, 245.
4. Karahan, Fuzulî, p. 300.
5. Arif Nihat Asya, All Works Poems: 1, p. 218.
مقالة
“علاج للفوضى ودعوة للإيمان*”
البروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله