يجب أن ينبُت ويتفتّح بسُرعةٍ جيلُ إيمانٍ نشطٍ في بلادنا من جديد بعد تلك الفترة الأليمة، ويجب أن يغوص في هذا البحر من الفصاحة والبلاغة، وعليه أن يأخذ فيضهُ من إيمانه، ويعود من تقليد الغرب والشمال إلى أصله، ليبني آداب إيمانه ويترنّم بها.
القراءة بلغة أخرى
البروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله
لقد نظَرَ الإسلام - الذي نفتخر بالانتساب إليه - إلى جميع ميادين الحياة وأنشطتها بعين الإيمان وجلب إليها هواء الإيمان الأصيل. مثلا: السلام في الإسلام ليست مجرد حركة يدٍ أو رأسٍ بسيطة، بل هي دعاء عميق: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أي: سلّمكم الله في الدنيا والآخرة، وبلّغكم لُطفه، وأدخلكم الجنة دار السلام". وكلمة الوداع التي اعتدنا استعمالها "أودعناكم الله"، تعني: "نُحيلُكم ونُودِعُكم إلى حماية الله ولُطفِه، ليُجيركم من كلّ مصيبة وآفة". وعندما نتمنى لمُخاطَبنا "التوفيق" فإن ذلك يعني: "كان توفيق الله رفيقك، ووفّقك الله لعمل الخير، وأعانك"، وهو أوسع وأعمق من كلمة "نجاح" الجافة والتي تشمل الخير والشرّ أيضا، كما أنّه يفوح برائحة الإيمان. ومثلها أيضا كلمة "إن شاء الله"، فهي ليست مجرّد عبارة تخلُّصٍ أو أسلوب ردٍّ مهذّب، بل هي تمظهر للإيمان يحمل معنى "إذا شاء الله ومنحني القوّة وكتب لي ويسّر لي فسأقوم بهذا العمل".
ومثل ذلك كلمة "آداب" في ثقافتنا الإسلامية، حيث أنّ اشتقاقها من كلمة "أدب" أمرٌ مثير للاهتمام. في حين أنّ مقابلها الذي يُستعملُ في اللغات الغربية هو كلمة " literatür " لاتينيّة المنشأ وهي مشتقّة من فعل "قرأ"، ولا يمكن أن تقابل إلا فعل القراءة عندنا.
يمكن أن يُفهم أن الإسلام الذي يطبع كلّ شيء بطابعه الخاص والذي هو عبارة عن أدبٍ، قد أعلى ورفع من التأدب في الكلام، ومن قول الكلمة في دائرة الأدب، ومن سلامتها وبراءتها من الشوائب والقصور وأنواع الأخطاء المادية والمعنوية والدنيوية والأخروية.
إنّ خدمةَ الكلمةِ والآدابِ للحقِّ والحقيقةِ أمرٌ أساسيّ في الإسلام. أمّا الكلمة الباطلة الخاطئة المعبّرة عن الظلم أوالمؤيّدة له والممثّلة له فهي مهما كانت مزيّنةً ومقنعةً غيرُ مقبولةٍ ومردودة دينًا وجالبة للعار والوبال على صاحبها. وبسبب هذه القاعدة الأساسية، وُصف امرؤ القيس في الحديث الشريف بأنّه " قائد الشعراء إلى جهنّم"[1] بالرغم من أنّه يُعدُّ من أكبر شعراء العرب في الجاهلية.
بالرغم من ذلك لم يتخلّف شعراء وأدباء الإسلام -الذين فهموا جيّدا الوظيفة الأساسية للآداب وللكلمة التي تستند إلى "المنفعة"- عن بلوغ الأعالي في الشاعرية. لأنهم اكتسبوا عوالم داخليّة واسعة شاسعة غنيّةً بسبب قوّة إيمانهم، ووصلوا إلى منبع عشق وشوق وانفعال لا ينضب بسبب حبّ الله وإجلاله. وهذا هو سبب ظهور أغلب الأدباء الكبار- أمثال: فريد الدين العطار، وملا [عبد الرحمن] الجامي، ومولانا جلال الدين الرومي، ويونس أمره، وأشرف أوغلو، ونيازي، وإبراهيم حقي الأرضرومي، والشيخ غالب...- من داخل علوم الدين والتصوف.
إنّ كتابنا المقدّس القرآن الكريم هو معجزة أدبية؛ ومُنِح نبيّنا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلِم، أي خاصيّة قول مقالةٍ عميقة جدّا بكلماتٍ قليلة وجيزة؛ وأخبر صلى الله عليه وسلّم عن نفسه أنّه "أفصح العرب والعجم".
وبما أنّ وظيفتنا الأساسية كمُسلمين هي الإرشاد والتبليغ، فإنّ تعلّم الآداب بجميع جوانبها وبأحسن صورةٍ واستعمالها بتفاصيلها وبأكمل وجهٍ دَينٌ في رقابنا.
* المقالات الرئيسة 3: المقالات الرئيسية لمجلات العلم والفن وبانزهير، إسطنبول: سرور للتواصل، 2015، ص 33-34.
[1] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 9، ص 370؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج 9، ص 239؛ ابن حجر، لسان الميزان، ج 3، ص 249.