فهم الجمال وحُبّه وإحياؤه*

ويجب أن يُزرع ذوقنا الخاصّ وتُزرع جماليّاتُنا الخاصّة في شبابنا بشكل خاصّ. فعلينا أن نربّيهم على أن يكونوا أشخاصا فضلاء وحسّاسين ومدركين للجمال ومحبين له، حتى يكون مستقبل وجودنا الثقافي والحضاري نَيِّرًا.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله

الحمد لله أننا كدولةٍ وكشعبٍ نمتلك أشياء جميلة لا مثيل لها وثرواتٍ لا حدّ لها. وإذا أردنا أن نُعدّدها شيئا فشيئا فإنّ أول ما سيردُ على الذّهن ثرواتٌ طبيعيّة نُحسد عليها، من قبيل: المناظر الخلابة، والشمس الساطعة، والهواء النقي، والأراضي المليئة بالصحّة، والجبال الثلجية، والغابات الخضراء، والهضاب الرائعة، والسهول الخصبة، والبحار النظيفة، والخلجان النفيسة، والطرائد الكثيرة والمتنوعة، والفواكه المتنوعة، والخضروات المختلفة، والأعشاب الشافية، وعيون الماء الحارة التي لا تُحصى، والمياه الجارية، والبحيرات، والموجودات والخيرات في البحر وتحت البحر...

وبعد ذلك يمكن أن نحصي ثرواتنا الحضارية والتاريخية، من قبيل: عددٌ لا يُحصى من بقايا المُدن التي تُمثل الحضارات المختلفة، أبنيةٌ، ومعابد، وكليّاتٌ معماريّة كبيرة، وقصورٌ مختلفة الأحجام، ودُورٌ، ومنازل، ومصائف ساحلية، وبيوت مدنيّة وريفيّة جميلة، وخاناتٌ، وفنادق، وحمّامات، ومدارس، وآثارٌ فريدة، ومخطوطات نفيسة، وكتابات، وقِلاعٌ باقية من عهودٍ سياسيّة مختلفةٍ...

وفوق ذلك قِيمُنا الاجتماعية والثقافية التي نفخر بها، من قبيل: ديننا الخالص، وإيماننا الصافي، وأخلاقنا الراقية ومحبّة الإنسان الواسعة التي تنبُع من ذلك، ونُضجُنا وأدبُنا، وعقليّة الخير وخدمة الآخرين، وخصالُنا المشهورة كالكرم والرحمة والسخاء والضيافة، ونواتُنا العائلية والجمعيّة المتينة، وعاداتُنا الأصيلة، وعشقُنا للعلم، وحبّنا للحقيقة، واحترامنا للعالِم، وصبرنا، وتحمّلنا، وجسارتنا، وبطولتُنا، وتقاليدنا الشعبية الغنيّة، وتقاليد لباسنا ومطبخنا الوفيرة المتنوعة، وموسيقانا العظيمة، وفنوننا البديعة الرائعة، وبراعاتنا اليدوية وحرفُنا، ولغتنا وآدابُنا المهيبة...

يوجد كلّ ذلك ولكن إذا أردنا الحقّ فإنّنا لم نولها الأهميّة التي تستحقها ولم نعطها حقّها. هذا وضعٌ مؤلم ومفجع. لقد صار حالنا كحال "أسماك في البحر، ولا تعرف البحر"[1]، كآكل ميراثٍ مُسرفٍ، نقضي على جميع ثرواتنا بسرعةٍ وننفُقها كيفما اتّفق. تلوُّث بيئةٍ مخيف، وتمدّد عشوائي وغير منظّم للمُدن، وحياة عشوائياتٍ، وغابات محروقة، وسواحل منهوبة بلا عدل، وجمال طبيعةٍ مُخرّبٌ بشكلٍ وحشي، وجداول وبحيرات وبحارٌ ملوثة، وأبنيةٌ هي بدائع فنيّة متروكة للخراب، وآثار تاريخية مهرّبة للخارج، وسُبل ماء مكسورة وملوثة، وكتابات شواهد مخدوشة عن قصد، ومخطوطات نادرة مدفونة في الأرض، ووثائق أرشيفية مُباعةٌ للخارج في مقطورات، وأملاك وقف منهوبة، وأضرحة مهدّمة، ومقابر مسلوبة، وعادات وأعراف آخذة في الفساد، وروابط عائلية ومجتمعية منحلّة، وفساد وتحيّل منتشر، وفنون قوميّة منقرضة، ولغة وآداب مدجّنة، وأجيال شابّة لا علم لها بالحضارة والثقافة، وأناسٌ بلا حبّ ولا احترام ولا أصل ولا أدب... كلّها بمثابة علامات حريقٍ وإشارات جدّيّة لأزمة مخيفة وخطر كبير داهم. ولذلك فإن على مُثقفي بلادنا الأوفياء والفدائيين أن ينكبّوا على هذه المواضيع عاجلا، وأن يعملوا على إيجاد تدبيرات جدّيّة ومؤثّرة. ولا يكفي أن يعمل المسؤولون فقط، فعلى جميع الأمّة أن تتحمّل مسؤولية حماية هذه المفاخر والثروات وأن تكون رقيبا ومحافظا لها.

ويجب أن يُزرع ذوقنا الخاصّ وتُزرع جماليّاتُنا الخاصّة في شبابنا بشكل خاصّ. فعلينا أن نربّيهم على أن يكونوا أشخاصا فضلاء وحسّاسين ومدركين للجمال ومحبين له، حتى يكون مستقبل وجودنا الثقافي والحضاري نَيِّرًا.  


 

* المقالات الرئيسة 3: المقالات الرئيسية لمجلات العلم والفن وبانزهير، إسطنبول: سرور للتواصل، 2015، ص 35-36.

 [1]ديوان خيالي، ص 107.

مقالة “” البروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله