منهجية الحب، وطريق النجاح*

إن محبّة الله هي أبرز المحبّة وأوكدُها، وأجملُها وأعلاها؛ لأن الله مالكُ أجمل الصّفات، ومُوجِدُ جميع أنواع الجمال، وصانعها ومُنشِئها وخالقها، فالإنسانُ إذا ما فكّر بشكل جيّد وعميق سيرَى اللّه ذا الجلال والجمال، وصاحب المُلك، وربّ العالمين وراءَ كلّ جميلٍ يُحبُّهُ. محبةُ الله هي المصدر الأساسي لكُلّ أصناف الخير والجمال بالنسبة للعبد، وهي منبعٌ للشّوق والذوق والطاقة لا ينفدُ ولا ينتهي. والعبد الذي يصل إلى محبّة الله يصبحُ وليًّا وعالماً وفاضلًا وكاملًا، يصبح إنسانًا خيِّرًا، وولدًا خيِّرًا، ووالِدينِ خيِّرَيْنِ، وجارًا خيِّرًا، وصديقا خيِّرًا...

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)

إن محبّة الله هي أبرز المحبّة وأوكدُها، وأجملُها وأعلاها؛ لأن الله مالكُ أجمل الصّفات، ومُوجِدُ جميع أنواع الجمال، وصانعها ومُنشِئها وخالقها، فالإنسانُ إذا ما فكّر بشكل جيّد وعميق سيرَى اللّه ذا الجلال والجمال، وصاحب المُلك، وربّ العالمين وراءَ كلّ جميلٍ يُحبُّهُ.

محبةُ الله هي المصدر الأساسي لكُلّ أصناف الخير والجمال بالنسبة للعبد، وهي منبعٌ للشّوق والذوق والطاقة لا ينفدُ ولا ينتهي.

والعبد الذي يصل إلى محبّة الله يصبحُ وليًّا وعالماً وفاضلًا وكاملًا، يصبح إنسانًا خيِّرًا، وولدًا خيِّرًا، ووالِدينِ خيِّرَيْنِ، وجارًا خيِّرًا، وصديقا خيِّرًا...

أما العبدُ الذي لم ينلْ محبّة الله فإنّه يصبح غير ناضجٍ، وثقيلًا، وقاسيًا وخشِنًا ومُؤذياً، وعاصيًا وظالماً، وغدّارًا وفاسقاً، وفاجرًا ومُضرًّا...

إنّ لُبّ الإسلامِ محبّةُ الله، ثم محبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبّة القرآن، ومحبّة الإيمان، ومحبّة العبادة، ومحبّة الخير والحسنات، ومحبّة المسلمين، ومحبّة الإخوان، ومحبّة الإنسان، ومحبّة الفنّ... ثم يَنتُج العفو، وتنتُج الرحمة، وينتج الصبر، وينتج الشّكر، وينتج العزم، وتنتج الهمّة.

إن أساس التصوّف هو تحبيبُ الله إلى العباد، وتحبيب العباد إلى الله، يقوم التصوّف بذلك من خلال أصُولٍ موزونةٍ جدّاً، ودقيقة جدّاً، وعميقة جدّاً، تجعلُ من العبد عاشقاً صادقًا، ومُحبّاً للخالق.

فـ"مثنويُّ مولانا جلال الدين الرومي" عشقٌ، وصوت النّاي عشقٌ، وشعر فضوليّ عشقٌ، و"معرفتنامة" لإبراهيم حقي عشقٌ، والأناشيد الإلهية ليُونس عشقٌ، والمؤلّفات الموسيقية للعطريّ عشقٌ، وخلوةُ العابدين عشقٌ، وذكر الدّرويش عشقٌ، وجهاد المجاهد عشقٌ، وهجوم المحاربين على الأعداء صائحين "الله الله" عشقٌ، وبذلُ الشهيد لروحِه عشقٌ، ورتبة الغازي عشقٌ.

عشق ايمش هر نه وار عالم ده (Aşk imiş her ne var âlemde)

علم بير قيل وقال ايمش انجق (İlm bir kıyl ü kâl imiş ancak)([1])

على المرء ألا يتصدَّر لأعمالٍ أكبر من حجمه قبل أن يشتعِل بداخله مِشعلُ العشق الإلهيّ؛ لأنه إذا أراد إصلاح الحاجب سيفقأ العين، وإذا أراد عمل الخير عمِلَ شرًّا، وأحرق الروح، وحطّم القلب، وخلّط الأمور ببعضها، وأوقع بين العباد، يقوم مع الغضب، ويجلس مع المضرّة، فيقتُلُ وهو يريدُ إحياءً، ويُخرّب وهو يريد إعمارًا؛ لأن نصفَ الطبيب قاتلٌ لا مداوٍ...

إن شرط خدمة الناس بشكلٍ جيّد هو أن يكون المرءُ عبدًا جيّدًا أمام الحقّ، فمَنْ لم يكن له وفاءٌ لخالقه فلا صفاء ولا فائدة له مع المخلوقات، فليُزيّن ظاهرَهُ كما شاء، فبعد أن صار باطنه وسِخًا وملوّثًا ليس لهُ أي قيمةٍ، وليقُل كلماتِه بِرِقّةٍ وحلاوةٍ كما يشاء، فلا أهميّة لذلك أبدًا بعد أن فسدَتْ نيّتُه.

إنّ أغلب مُعاناتِنا اليوم ليست من العدوّ، بل من المُسلم النّاقص؛ لأن العدوّ موجود ومُستمرٌّ منذ القِدَم، ولكن بالرغم من ذلك أحرز المسلمون الحقيقيّون العديد من الانتصارات البرّاقة، وأسّسُوا العديد من الحضارات الرفيعة، فحكمُوا العالم، وقادُوا العديد من الأُمم، وساسُوها بالعدالة والسعادة على امتداد عصورٍ.

"لا يكون العِرفانَ بإدراك المرءِ لتقصِيرِه فقط"، بل على العالم الإسلامي أن يتّجه إلى إبصار عيُوبِه، وتصحيح أخطائه، وتعديل منهجيّتِه.

أنظُرُ في أحوال المُتصدِّرين باسم الإسلام اليوم، وفي أقوالهم، فأخجل وأحزن، فهُم يتصرَّفون بعقليّة خاطئة، ويعملون بمناهج خاطئة، يجعلون من الصديق في مقام العدوّ، ويقطعون الغُصن الذي يمتطُونه، بدلًا من كسب القُلوب يحرقُون الأفئِدة، ويكسبون البغض، ويزيدون العداوات، ويكثّرون جبهات الصراع.

إنّ المنهجيّة الأساسية لنشر الإسلام اليوم وتطويره وتحبيبه للآخرين وحمايته في البلاد وفي خارجها هي الصّبرُ والمحبّة والرحمة، ليست القسوةَ والعنادَ والعراكَ والحربَ.

فالمسلم الجيّد هو بلا شكّ صاحبُ إيمان راسخٍ، مُفكّرٌ في الفوز بالآخرة، فدائيّ، صبورٌ، رحيمٌ، عفُوٌّ، مُفعمٌ بالحبّ والاحترام، حسن الأخلاق، طيب المعشر، حلو المنطق، ذو وجه بسّام، ومحبٌّ للخير، ويجب عليه أن يُبرز للجميع أنّه كذلك.

يقول حبيبُنا وسيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "لا خيرَ فيمَن لا يتعايشُ، ولا يندمجُ مع أحد، ولا يألفُ، ولا يُؤلَفُ، ولا يتحابُّ معهُ"([2]).

اليومَ يجب على كلّ مسلم أن ينتبه جيّداً إلى حاله، ومظهره، وملبسه، وتصرّفاته، وكلامه، وعمله، عليه أن يُبرز اهتمامًا وعنايةً، عليه أن يتجنَّبَ بشدّةٍ إظهار انطباعٍ سيِّئ؛ حتّى لا يغضبَ منه مَنْ يراهُ مِنْ بعيدٍ فيكرهَه، ويبتعدَ عن الإسلام.

يجب على كلّ مسلمٍ أن يسعى إلى تعريف الإسلام للآخرين، وتحبيبهم فيه، من أجل ذلك عليه أن يُولِيَ جُهدًا بالغًا جدًّا؛ ليجعلَ من نفسه مثالًا جيّدًا، وشخصًا مثيرًا للإعجاب، ومدعاةً للغبطة، إذا كان يريد الفوز بمرضاة الله جل جلاله فإن الطريق هو هذا الطريق، والنجاح أيضاً يتمُّ الذهاب إليه والوصولُ إليه من هنا.


* المقالات الرئيسية ص265-267.Başmakaleler 1: İslâm Dergisi Başmakaleleri, İstanbul: Server İletişim, 2017, (Kasım 1991 tarihli makale), s. 265-267.

(1) ديوان الفضولي (Fuzûlî Divanı)، (ص: 306).

(2) حول الحديث الذي نُقِل عن أبي هريرة، انظر: أحمد بن حنبل (Ahmed b. Hanbel)، (2: 400)، حديث رقم (hadis no): 9187؛ الحاكم (Hâkim)، (1: 73)، حديث رقم (hadis no): 59.

مقالة “احترام العلم والتخصّص” البروفيسسور الدكتور محمود أسعد جوشان رحمه الله