فضل العالِم*

يجب على العالم الحقيقي أوّلا أن يُؤمن، عليه أن يكون من أهل الإنصاف وأن يعرف الله تعالى، تلك هي البراعة الحقيقية، البراعة الحقيقية الكُبرى. فإذا عرف الإنسان الله تعالى وصار من أهل الإنصاف والإيمان وصار شخصا ذا ضمير، فكلّ معلومة يتعلّمها بعد ذلك تصبح ذات قيمة. إذًا فقيمة الإنسان العالم لا تُقدّر بثمن. فبعد الانتساب لأهل الإيمان والخضوع للّه وطاعته والقبول بالقرآن واتباع رسوله، تمام. قيمةُ ذلك العالم لا تقدّر بثمن. الآخر يعملُ لِشخصِه هو، العابد يعمل لشخصِه، فيقوم بأعمال ترفع مرتبته المعنويّة. أما هذا فبما أنّه مشغول بالعلم فهو من جهةٍ يحُلّ الغوامض ومن جهة أخرى ينقُل ما تعلّمه لغيره.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان رحمه الله

فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير.2

"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، فضل ومزية العالِم أي العارف صاحب المعرفة، على العابد أي صاحب العبادة كأفضليّتي أنا على أدناكم. من القائل؟ سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم. أيْ ماهي درجة أفضليّة سيدنا النبي على أدنى أصحابه مرتبة؟ أين هو سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأين هو أدنى أصحابه وآخرهم من حيث الرُّتبة؟ على نفس قدر عِظَمِ الفرق وارتفاعه وعُمقه بينهما يكون الفرق بين العالم والعابد بذلك القدر من الارتفاع والعُمق والبُعد. فالعالم أعلى من العابد بذلك القدر.

يجب أن يكون هذا الحديث الشريف مُرشِدًا ومُنيرًا لحياتنا.

يجب على العالم الحقيقي أوّلا أن يُؤمن، عليه أن يكون من أهل الإنصاف وأن يعرف الله تعالى، تلك هي البراعة الحقيقية، البراعة الحقيقية الكُبرى. فإذا عرف الإنسان الله تعالى وصار من أهل الإنصاف والإيمان وصار شخصا ذا ضمير، فكلّ معلومة يتعلّمها بعد ذلك تصبح ذات قيمة. إذًا فقيمة الإنسان العالم لا تُقدّر بثمن. فبعد الانتساب لأهل الإيمان والخضوع للّه وطاعته والقبول بالقرآن واتباع رسوله، تمام. قيمةُ ذلك العالم لا تقدّر بثمن. الآخر يعملُ لِشخصِه هو، العابد يعمل لشخصِه، فيقوم بأعمال ترفع مرتبته المعنويّة. أما هذا فبما أنّه مشغول بالعلم فهو من جهةٍ يحُلّ الغوامض ومن جهة أخرى ينقُل ما تعلّمه لغيره.

هناك عالم كبير اسمُه "آرثر كلوبر" يدرُسُ تطوّر الأمم والحضارات. يقول: "لم يتقدّم العلم ولم تتطوّر الحضارة في أوروبا على [أكتاف] أُمّةٍ واحدة. وإنّما بالتداول. [الأمّة] التي تتعب تُسلّمُ للأخرى، فحصل ذلك [التقدّم والتطور] على إثر عملٍ مشترك". ويُعطي تواريخ ذلك: ازدهرت فرنسا بين هذا التاريخ وهذا التاريخ، وبين هذا التاريخ وهذا التاريخ ازدهرت انكلترا، وبين هذا وهذا ازدهرت ألمانيا. لقد تمكنوا من إنجاز حضارة مشتركة لأنهم اتحدوا مع بعضهم جميعا، ولأن قوّةً مشتركة كالمسيحيّة جمعتهم. والعلم ليس أمرا سهلا فكلّ تلك [الإنجازات] تكون نتيجةً للانكباب على العمل وإنشاء المعاهد. وهو أمرٌ لا يتمُّ من خلال معلومات متناثرة لأشخاصٍ متفرقين.

متى تحرّرت ألمانيا؟ ومتى تحرّرت فرنسا؟ وكيف ارتَقَتا؟ لقد تحرّرتا عندما أسّستا أكاديمياتهما العلمية. أسّست ألمانيا أكاديمية علميّة. خصّصت مبالغ ضخمة، خصّصت للبحوث العلمية مبالغ ضخمة. بعد ذلك أخذ العمل في التطوّر. وكذلك أنكلترا وفرنسا... بدون العلم لا يمكن القيام بأي شيء. حتى العبادة، فعندما ننقطع عن العلم تبدأ الأخطاء وتبدؤون حتى في الشرود في عبادتكم. لذلك فكلُّ أمرٍ في الدين أو الدنيا أو الآخرة يُحلُّ بالعلم.

ولذلك كان قدر العالم أعلى من قدر العابد. أحدهما يعمل لنفسه، والآخر يعمل في ميدان الأعمال التي تعود بالنفع على الإنسانية جمعاء. ثمّ ومن أجل تحديد هذه الفضيلة يقول سيدنا النبي في حديث شريفٍ: "إنّ الله" من المؤكّد أن الله تعالى "وملائكته" وملائكته جميعا "وأهل السماوات والأرضين" جميع أهل السماوات والأرضين... من هؤلاء؟ نحن لا نعرفهم. هناك الملائكة، وهناك إلى جانبهم العديد من الموجودات التي نعرفها والتي لا نعرفها. نحن لا يمكن أن نعرف كم من الكائنات لدينا وكم عددها. جميع الملائكة وجميع أهل السماء والأرض ومخلوقات الله المتنوعة من غير البشر، "حتى النملة في جحرها" "حتى الحوت" حتى الأسماك التي في البحر، "ليُصلّون على معلّم الناس الخير" يستغفرون ويدعون للشخص الذي يُعلّم الناس الخير ويصلون عليه ويسلمون.

يقولُ ملائكته والموجودات الطيبة من أهل السماء والأرض والنمل الذي في الأرض وحتى الأسماك التي في الماء تصلّي وتُسلّم وتستغفر وتدعوا بالخير وتتمنّاهُ للعالم، انظروا فهنا تعريف للعالم لو انتبهنا "ليصلون على معلّم الناس الخير" الشخص الذي يُعلّم الناس الخير. أيْ أنّ المُهمّ هو سوق الناس إلى الخير، وتعليمهم الخير، وإيصال الخير لهم.

هذه الكلمة، هذه العبارة تُذكِّرنا بحديث شريف آخر. حديث شريف آخر لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. من هو أفضل الناس؟ من أخيرهم؟ خير الناس من ينفع الناس، أفضل الناس هو أكثرُ من تُصيب فائدتهُ النّاسَ. ليس من يعيشُ لنفسه، العابد يعيش لأجل نفسه، يعبُدُ لنفسه،ويذكُر لنفسه، ويُسبِّحُ لنفسه، هكذا يستثمِرُ وقتَه. فيحصل بذلك على درجة، لا يُقال لا يحصُل، لأن سيدنا النبي شبّههُ بالصحابة لو لاحظنا. أدنى أصحابي منزلة... لا يُشبّهُه بالكافر ولا بالمشرك، بل أيضا بالصحابة. أي أن العابد أيضا مثل الصحابة. لكن العالم الذي يُعلّم الناس الخير مثل النبي. لذلك سنُعلّم الناس الخير والحق والصواب، سنسعى إلى تعليم الناس الخير. في الحقيقة، القيمة الأصلية للعلم أيضا تظهرُ من هُناك. قيمة العالم مِن إيصاله الخير لغيره... عندما يبقى الإنسان بمفرده لا يحصُل ذلك. يحصُل ذلك عندما يُعلّم غيرَه الخير. 

إذًا ما الدرس الذي نستخلصه من هذا؟ سنتّجه إلى العلم بكلّ ما نقدر. سنقرأ تلك الكُتب ذات الأغلفة اللامعة المُذهّبة الجميلة التي نُخبِّؤها في مكتباتنا. سنسأل عن الكتب الجيدة. سنأخذ لمكتباتنا كُتبًا ذات قيمة. سنسأل العلماء والأساتذة عن الكُتب التي سنقتنيها ونقرؤها. وسنخصص الوقت أيضا لنقرأ الكُتب التي سبق لنا اقتناؤها. لأن مُعلّم الناس الخير يكتسب صفة العالم. من الذين يُمكنني أن أُعلّمهم؟ أنت يُمكنُك أن تُعلّم أطفالك. أنت يُمكنك أن تُعلّم أقرباءك وجيرانك القريبين منك في قريتك أو في مدينتك. لذلك يمكنك أنت أيضا أن تدخُل في هذا الوصف.

فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة و خير دينكم الورع.4

" فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع"، نكتفي بهذا القدر من الشرح وننتقل إلى الحديث الشريف الثاني. في هذا الحديث الشريف الثاني يقول سيدنا النبي:

"أفضلية العلم، فضيلتُه، أحب إلي من فضيلة العبادة". الآن، علينا أن نقول بعض الكلمات عن الدقائق التي تحويها هذه العبارات. يقول: "فضل العلم" وفي نفس الوقت يقول: "فضل العبادة".هذا يعني أن في كليهما فضيلة. في العلم فضيلة وفي العبادة فضيلة. يقول سيدنا النبي: "غير أن فضيلة العلم أحب إلي". فضيلة العلم أحب إلي من فضيلة العبادة. فكأنه يقول بذلك "أنا أحرصُ أكثر إلى تحصيله". وهنا يُسدّ أيضا باب الخطأ والفهم الخاطئ. أي أنّه لا مجال لفكرة خاطئة من قبيل الحرص على العلم وترك العبادة. هذا مهمّ، وهذا أيضا مهمّ. غير أن ما يهمّنا هو أنّ العلم أعلى مرتبة من العبادة.

;فضل العالم على العابد سبعون درجة بين كل درجتين حضر الفرس السريع المضمر مائة عام وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهى عنها والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها.5

انظروا، هنا أيضا استعمل سيدنا النبي عبارة مفسّرةً أكثر للمسألة. فضل العالم على العابد سبعون درجة. لكن كيف هي تلك الدرجات؟ بين كل درجتين مسافة مرتفعة وشاسعة لدرجة أنّها تعادل ما يقطعه الفرس المُضمَّر في مائة سنة من العدو السريع المتواصل بنفس السرعة. بين كلّ درجتة ودرجة. وبين العالم والعابد سبعون درجة من تلك الدرجات.

انظروا، هنا أيضا استعمل سيدنا النبي عبارة مفسّرةً أكثر للمسألة. فضل العالم على العابد سبعون درجة. لكن كيف هي تلك الدرجات؟ بين كل درجتين مسافة مرتفعة وشاسعة لدرجة أنّها تعادل ما يقطعه الفرس المُضمَّر في مائة سنة من العدو السريع المتواصل بنفس السرعة. بين كلّ درجتة ودرجة. وبين العالم والعابد سبعون درجة من تلك الدرجات.
يقول سيدنا النبي "وذلك" كعبارة لإيضاح سبب ذلك [الفرق]. لماذا هذا؟ "أنّ الشيطان يضع البدعة للناس". "فيبصرها العالم"، لكن العالم يرى تلك البدعة. إن هذه حادثة جديدة، هذه عادة جديدة، هذا أصل جديد ليس موجودا في أصل ديننا. الشيطان وضع هذا، هذه بدعة، هذا طريق خاطئ. العالم يرى ذلك. "فينهى عنها"، يمنع الناس عنها. يمنعهم قائلا: "لا تفعلوا ذلك، هذا ليس من أصل ديننا. هو حرام، وتحريف للدين، وليس شيئا يحبُّه الله". "والعابد" أما العابد، "مقبل على عبادته" متجه إلى عبادته، مُنزوٍ، مشغول بالعبادة. "لا يتوجّه لها"، لتلك البدعة، لا يتوجّه لتلك البدعة. لا علم له بها، ولا يلتفت إلى ذلك الطرف. "ولا يعرفها"، لا يعرف حتى أنها بدعة. هنا جاءت معلومة تؤيّد الشرح الذي ذكرتُه في الحديث الشريف السابق.

يعني ذلك أنّ أفضليّة الإنسان كعالِمٍ تكمُنُ في تعليمه الدِّينَ للناس بشكل صحيح، وفي منعه من الانحراف
إلى طرقٍ خاطئة ومنعهم من الانحراف إلى طريق خاطئ. تكمنُ في تعليم الدين بشكل صحيح، وفي التنبيه
عندما تظهر بدعة، وفي إرشاد الناس.

بعض الناس يظنون أنهم إذا تعلّموا كثيرا من المسائل صاروا ذوي شأن وتباهوا على الناس من قبيل: أنا أعرف كذا، وأعرف كذا، وما الذي تعرفه أنت. لا يسمحون لغيرهم بالكلام. ليس هذا هو المقصد من العلم. انظُر، صرف الناس عن الشرّ، وإيصال الخير لهم، هذا هو المقصد من العلم. وعليه فإن الإنسان إذا قرأ وتعلّم كُتُبا بالمُجلّدات واكتسب معلومات واسعة جدّا ثمّ لم يعلّم عِلمَهُ لغيرِه، ولم يُحارب البدعة، وإذا ضلّ الناس عن الطريق لم يقف أمامهم ليشرح لهم المسألة بجسارة وهو يقول "هذا الطريق الذي تذهبون فيه خاطئ، هذا الطريق لا يوصلكم إلى مرضاة الله، أنتم تسيرون باتجاة خاطئ"، فإنّه لا قيمة للعالِميّة حينها. حينها لا قيمة له، فقيمته تكون على قدر إرشاده للناس إلى طريق الحقّ. ومن هنا يتبيّن أيضا أنّ القصد من العالم هو المرشد. أي الشخص الذي يهدي الإنسان إلى الحق ويأخذ بيده إلى الدين القويم وطريق الحق لأجل هدايته ويريه الطريق الصحيح. وليس الشخص الذي يقرأ الكتب بالمجلدات، ويتباهى على الناس، ويلف عمامة كبيرة، ويرتدي جبّة كبيرة، ويضيف إلى اسمه العديد من العناوين من خلال أصول العصر القديم أو كما هو الآن. هل يصل خيرُه إلى غيره؟ أصبح بروفيسورا كبيرا، ولم يُخرّجْ أستاذا مساعدا واحدًا، هل يمكن؟ هل ستأخذ تلك المعلومات إلى القبر؟ لا فائدة منه للطلبة. لا يمكن. عندما يُعلِّم غيرَه تكون له قيمة. عندما يُعلّم ماذا؟ عندما يعلّم الدين عندما تُذكرُ البدعة. ومن هنا يتبين أن المراد بالعالم هو الشخص الذي يبيّن طريق الحق للناس، ولا يعني ذلك الشخص الذي يعرف جيدا المعلومات المتناثرة.


 تم تفريغ النص من درس للبروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله سنة 1982.

الترمذي، حديث رقم 2685.

كنز العمال، ج 16، ص 128، رقم 44154.

المستدرك، ص 92.

الديلمي، حديث رقم 4345.

مقالة “فضل العالِم” البروفيسسور الدكتور محمود أسعد جوشان رحمه الله