البروفيسور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)
العلماء تيجان على رؤوسنا، وأساتذتنا أيضا تيجان على رؤوسنا. ويعطي الإسلام اهتماما خاصا بالعلم والعالم. لكن ما هو مقدار الاهتمام المذكور؟ يعطي الإسلام لقلب مؤمنا حبا للعلم يجعله يقول: من علمني حرفا كنت له عبدا[1]... يعني: ليس من علمني الروحانيات أو أرشدني إلى الحق والصواب ولكن من علمني حرفا واحدا أصير له عبدا. ويقول لنا الإسلام كذلك: اطلبوا العلم ولو في الصين[2]. العلم والحكمة والروحانيات كلها في مكة والحجاز، إذن فماذا تعني: اطلبوا العلم ولو في الصين؟ إنها تعني العلوم التقنية التي لا علاقة لها بالدين لأن هذه العلوم وغيرها من مستلزمات الحياة الهامة. فإذا لم يكن في مجال من مجالات العلم عالم أو باحث من المسلمين فكل المسلمين يتحملون مسؤولية ذلك. لأنهم لم يهتموا بذلك العلم ولم يربوا من يهتم به.
يجب أن يكون في كل مجالات العلم الموجودة في العالم علماء مسلمون يبحثون فيه ويدققونه. فإذا كان هناك علم جديد مكتشف لم نسمع باسمه ولم يتعلمه المسلمون فجميع المسلمين مسئولون عن التقصير في تحصيله. وسبب ذلك أن طلب العلم فرض على الكفاية. فعلى سبيل المثال: إذا مات فقير من فقراء المسلمين ولم يصل عليه من المسلمين أحد ولم يدفنه فجميع المسلمين مسئولون عن ذلك، لكن إذا صلى عليه نفر ودفنه فقد سقط هذا الفرض عن جميع المسلمين، لأن صلاة الجنازة فرض على الكفاية، إذا أداه أحد سقط عن الباقين. والعلم كذلك فرض على الكفاية. فعلى هذا يجب على المسلمين أن يتعلموا كل العلوم الموجودة.
وهناك أنواع من العلوم:
العلم العالي: وهي العلوم الرفيعة التي تحتوي على العلوم الدينية التي توصل إلى رضا الله عز وجل وترشد المسلمين إلى طريق الجنة.
العلم الآلي: وهي العلوم التي توصل إلى تحصيل العلم العالي، فهي علوم آلة وواسطة.
ومن المحقق أن أعلى العلوم رتبةً هو العلم بالله تعالى ومعرفته جل وعلا، لكننا نعلم علم اليقين من التجارب الأليمة أن العلوم الدنيوية التي أُهملت قد تكون سبباً في عذاب المسلمين في الآخرة. لأن هذا يحتمل أن يؤدي ببلد من بلاد المسلمين إلى الهلاك، ويسبب الهزيمة أمام العدو، ويكون سبباً لدمارها وخرابها ووقوعها تحت براثن الظلم والطغيان. وفي نهاية المطاف يقمع الظالمون المسلمين، ويعلمونهم الباطل، ويجبرونهم على التعلم اللاديني فتبعد الأجيال القادمة من الإيمان والإسلام. لهذا فكل العلوم محببة ومكرمة ومحترمة لدينا سواء أكانت علوماً دينيةً أو دنيويةً كلها تيجان على رؤوسنا.
يجب علينا فرداً فرداً أن ننمي أنفسنا. وماهية التصوف هو هذا. علينا أن ننمي أنفسنا في كل المجال، وفي كل النواحي، وعلينا أن ننافس العالم بمهاراتنا في المجال الخاص بنا، كما أن علينا أن نكون الأولين عالميا في كل مجالاتنا. وعلينا أن نمكن إخواننا من الاستفادة من كل ما نشر في العالم في كل المجالات ويتابعوا ما نشر عن العلوم والمهن التي يهتمون بها. وهذه المجموعات من المؤكد أن تكون في مكتبات الجامعات، فعلى الطلاب أن يبحثوا عنها ويقرأوها، ويخصصوا يوما في الأسبوع لتنمية أنفسهم في مجالاتهم. وكل من يريد أن يعلم مستجدات مهنته فعليه أن يقرأ ما نشرته المجموعات المذكورة والمؤلفات التي حضرها لهم إخوانهم.
الكتاب أول ما ينشر يصبح قديما، فالكتاب الذي طبع يعني أنه أصبح قديما. الكتاب يعطي المعلومات الكلاسيكية. والمعلومات الكلاسيكية معلومات قديمة، تم نقدها مرات عديدة، وجرت مناقشات حوله، وفي أثناء المناقشات تم اكتشاف مواضيع جديدة أضيفت للكتاب، لكن الموضوعات والمعلومات الجديدة توجد بكثرة في المجموعات والمجلات الجديدة التي تخص المجال والمهنة. لهذا إذا لم تكن تتابع المجلات والمجموعات التي تخص مجالك فهذا يعني أنك لم تتخصص في المجال المذكور وينقصك الكثير من العلم والتقنية، فعليك أن تنمي نفسك من هذه الناحية.
يجب أن يتواجد منشورات المؤسسات المهنية في مكتباتنا. المحامي عليه أن يقتني منشورات كلية الحقوق والقانون، والاقتصادي عليه أن يقتني منشورات كلية الاقتصاد، والذي يهتم بإدارة الأعمال عليه أن يقتني منشورات كلية إدارة الأعمال، لكن الأولوية للمجلات والمجموعات، لأن الدكتور والمعيد والأستاذ المشارك والأستاذ المساعد والبروفيسور يكتب أشياء جديدة، أعني أنه لا يكرر القديم. فتكرار القديم وعدم إضافة شيء جديد عليه عيب لأهل العلم، لهذا فهو يكتب أشياء جديدة. وهذا الشيء الجديد إنما يطبع في المجلة. لهذا يجب متابعة المجلات.
هذه نتائج ثابتة، إذا لم تكن في مستوى متابعة المجلات والمجموعات المنشورة في مجالك فليس لك حق القول في ذلك العلم. فعليك أن ترتقي لهذا المستوى من العلم والمعرفة
وبعد كل هذا علينا أن نقيم علاقات جيدة مع كل من له ارتباط أو علاقة بمجالنا. علينا أن نقيم علاقات شخصية مع هؤلاء الأشخاص، حتى ولو لم يطابق فكره ما نحن عليه. لأن العلم لا وطن له، وليس مقيدا بشخص معين، فالعلم علم، لذلك يمكن التعلم من الألماني كما يمكن التعلم من السويدي، كذلك يمكن أخذ العلم من أي شخص في تركيا. يمكن أن يكون أستاذك الذي تأخذ العلم منه لا يدخل المساجد والجوامع، كما يمكن أن يكون ممن لا يقيم الصلاة، لكن إذا كان صاحب علم فعليك أن تقيم علاقات معه ولو كانت على أقل مستوى.
أتقنوا ما تحبون فعله وأدوه بأحسن ما تستطيعون، وليكن الوسيلة التي تستخدمونها أحسن وسيلة وواسطة. تعلموا استخدام الحاسوب، لأنكم تستطيعون أن تعملوا البحوث وتصلوا إلى النتائج بسرعة فائقة، ويمكنكم تصنيف المعلومات لديكم. سجلوا أنفسكم في قنوات المعلومات لأنكم تستطيعون أن تصلوا إلى المعلومات من هنالك. يمكنك أن تصل إلى أي مكتبة ما في دولة أخرى حين تتصل بها من خلال الحاسوب فتقرأه من شاشتك. وهذا شيء جميل جدا. لما كنت أستاذا في الجامعة كنت أحزن وأغضب من إغلاق المكتبة في الساعة الخامسة، لأن العامل فيها كان ينظر في عيني ويطلب مني بنظراته أن أترك المكتبة في الرابعة والنصف، ويقول قبل الخامسة بربع ساعة: يا أستاذ هل يمكن لي أن آخذ الكتاب الذي بيدك؟ والسبب أن المكتبة تغلق في الخامسة. وأنا كنت أداوم على المكتبة صباحا ومساءا. فإذا تكلمت مع أحد وضيعت بسببه دقيقتين كنت أحزن. وفي أيام يمكنك أن تجلس امام شاشتك ويظهر لك المعلومات أمام الشاشة في دقائق معدودة وهذا شيء جميل جدا.
ويلزمنا اللغة الأجنبية للاستفادة من هذه التكنولوجيا. لذلك عليك أن تتعلم واحدا من اللغات الأجنبية جيدا جدا. وهذه اللغات تلزمنا أيضا لدعوة الأجانب إلى الإسلام، كما تلزمنا للحصول على هذه المعلومات الموجودة على أجهزة الحاسوب.
لكل علم قيمته الخاصة به، ويجب لكل أحد أن يتعلم إتقان شيء من الأشياء بأعلى جودة. اللائق بالمسلم هو إتقان كل ما عمله، وإجراء كل عمل وفقا لتقنياته وأسسه، بأحسن شكل وأعلى جودة. لهذا كله علينا أن نهتم بالعلم ونجعل اهتمامنا به واجبا دينيا.
وفقنا الله عز وجل لما يحب ويرضى، وفقنا لعمل الخير، وأن نجلب الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأن نلقاه بعمل يرضاه، ونلقاه وقد رضي عنا، وأن يشرفنا بجنته وبالنظر لجماله. آمين، بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
[1] راجع حديث أبي أمامة: الطبراني: المعجم الكبير، جـ: 7، صـ: 112، حديث رقم: 7528، مسند الشاميين، ، جـ: 2، صـ: 7، حديث رقم: 818. البيهقي: شعب الإيمان، ، جـ: 2، صـ: 406، حديث رقم: 2214. ابن العساكر: تاريخ دمشق، ، جـ: 5، صـ: 359.
[2] راجع حديث أنس بن مالك، البزار، المسند، جــ: 1، صــ: 175، حديث رقم: 95. الديلمي، مسند الفردوس، جــ: 1، صـــ: 78، حديث رقم: 236. العقيلي، الضعفاء، جــ: 2، صـــ: 230، ابن عدي، الكامل في الضعفاء، جــ: 4، صـــ: 118، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، جــ: 9، صـــ: 363، الرحلة في طلب الحديث، صـــ: 75، 75-76، ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، حديث رقم: 12، 13، 19، البيهقي، المدخل إلى السنن الكبرى، حديث رقم: 243
مقالة
“الاهتمام بالعلم والتقنية”
البروفيسسور الدكتور محمود أسعد جوشان رحمه الله