الاشتغال بالعلم هو أكثرُ الأعمالِ قيمةً وثوابًا*

إذا أرادت أمّةٌ أو دولةٌ أو جماعة أو فردٌ أن يكسبَ المال، أن يستثمرَ ويجنيَ بذلك أرباحًا فما أكثرُ الاستثمارات ربحًا؟ إنه العلم. رجال العلم يقولون هذا، قاموا بأبحاث ودراسات، رجالٌ علمٍ يعرفون جيداً لوازم علم الإقتصاد، وأساتذة جامعات، وأساتذة حاصلين على درجة البروفيسور، والباحثون عن الثراء، وأصحاب رؤوس الأموال قاموا بدراسات للوصول إلى مجال الاستثمار الذي يحقّق ربحاً أعلى إذا استثمروا فيه أموالهم. والنتيجة العلمية لذلك هي أن أكثرَ الاستثمارات ربحاً هي الاستثمارات في المجال العلمي! أكثرها ربحاً، ولكنها أكثرها كُلفةً أيضا! لذلك فإن الشركات الكُبرى، والمؤسّسات الضخمة تُنفق أقساماً كبيرة جدّاً من أرباحها لتطوير البحث العلمي.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)

الاشتغال بالتعليم هو أهمُّ الأعمال الجميلة التي يجب القيام بها؛ ليكونَ الإنسانُ عبدًا يُحبّهُ الله تعالى، وليفوزَ بمرضاته ومحبّته.

وممّا لا شكّ فيه أن أنواع الخيرات كثيرةٌ، وأن الله تعالى إذا أحبَّ من أي عبدٍ خيراً قام به، أو حسنةً، أو موقفًا جميلاً فإنه يمكنُ أن يدخله الجنّة بسبب ذلك الموقف الجميل الواحد، فيمكنُ للإنسان بذلك أن يدخل الجنّة حتّى بسبب عملٍ واحدٍ مقبول.

عالم الحديث الكبير الإمام النّووي بدأَ كتابه رياض الصالحين ـ وهو كتاب صغير الحجم، ولكنّه مفيدٌ جدّاً ـ ببيانِ أنّ طُرُق الخير كثيرةٌ جدّاً، فالأشياءُ التي يمكن للمسلم القيام بها لفعل الخير، والفوز بالثواب، ولنيل مرضاة الله تعالى كثيرةٌ جدّاً: العبادة، الصدقة، الخير، والحسنات، قراءة القرآن، الذكر، الجهاد، وخدمة الناس.

يمكنني أن أُلخّص المسألة بأنّ رأس كلِّ أمرٍ يبدأ من التعلّم والعلم والاشتغال بالعلم، ثم يتواصل بذلك الشكل، وأنا أعني بقولي: "كلّ أمرِ" الأعمالَ الدينيّةَ، والأعمالَ الدّنيويّةَ.

فبالعلم يتحقّق النجاح في الأعمال الدينية، وبالعلم أيضاً يتحقّق النجاح في الأعمال الدنيوية، وقد تحقّق ذلك فعلاً بالعلم، وبعد أن نجَا الناسُ بالعلم من جاهليّة العصور المظلمة تمكّنُوا من تشييد البيئة المُريحة التي نعيش فيها اليوم.

لقد تمكنوا بالعلم من تطوير الأجهزة والآلات، لذلك فالعلم يُحقّقُ راحةً الإنسان في الدنيا، وفي الآخرة، مَن أراد العزّة والاعتبار والراحة في الدنيا فليتمسّك بالعلم، ومن أراد المكانة والمقام والدرجة والنعمة والجنّة في الآخرة فليتمسّك أيضاً بالعلم.

والإنسانُ الذي لا يتمسك بالعلم فإن الأعمال التي يُباشرُها بنيّة حسنةٍ يمكن ألا ينجزها بالنّية الحسنة فقط، ويمكن أن يقع في الخطأ، فالعمل الذي يمنع الناس من الوقوع في الخطأ هو العمل العلميّ، لذلك يجب أن يكون لدى جميعنا أقلام ودفاتر وحقائب، يجب أن يكون في أيدينا جميعاً كُتُبٌ للقراءة...

ويجب أن يوجد في عقولنا جميعاً مخطّطات متعلّقة بالأعمال العلمية التي سنقوم بها، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، متقاعدين وعُمّالاً، يجب علينا جميعاً أن نهتمّ بالعلم قطعاً، يجب أن يتعلّم جميعنا أشياء ويُعلّمها، هذا العمل يبدأ مع المهد، ويتواصل إلى اللّحد.

يجب أن يتواصل من المهد إلى اللحد، والإنسان في الحقيقة يتعلّم أشياء حتى عندما يكون في المهد، حتى في الأوقات التي لا يمكن لكم تخيّلها قد يتعلّم الطفل شيئاً، بل إنه يتعلّم أشياء قبل أن يولد! فالطفلُ يلقُطُ ويتعلّم أشياء من خلال اضطجاع أمّه، وقيامها، وأكلها، وشربها، ونومها، وصحوها، لذلك فالعلمُ من المهد إلى اللحد.

لذلك فالاشتغال بالعلم هو أكثر الأعمال ثواباً، فبين يدي المسلم إمكانات وخيارات متعدّدة، "يا تُرى هل أصلّي، أم أذكُر الله، أم أتعلّم العلم، أم أفعل هذا، أم أفعل ذاك؟...".

وبما أن أنواع الخير كثيرةٌ فإنه إذا ما اشتغل بالعلم عندما يريد اختيار أكثر الأعمال خيراً، فإنه يفوز بأكبر ثوابٍ.

لذلك يجب علينا جميعاً أن نسعى إلى تعليم عائلاتنا، وأولادنا أجمل الأشياء.

ويجب علينا ألا نتردَّدَ في تقديم كافة أنواع التضحيات من أجل طلبِ مَن يقوم بهذا العمل الكبير الأجر لأنفسنا ولذَوينا.

ما أنواع التضحيات؟

أوّلاً: التضحيات المادية: مثلاً: القدومُ إلى هنا، أجرة الطريق، أجرة الإقامة، تسجيل الأطفال في الكتاتيب، مدوامتهم على الدراسة فيها، دفع أجرة الكُتّاب، الكُتُب التي يقتنونها، الأوراق، الأقلام ونحوها، هذه كلّها نفقات في سبيل العلم.

العلم أربح استثمارٍ، وأكثرهُ ثوابًا.

إذا أرادت أمّةٌ أو دولةٌ أو جماعة أو فردٌ أن يكسبَ المال، أن يستثمرَ ويجنيَ بذلك أرباحًا فما أكثرُ الاستثمارات ربحًا؟ إنه العلم.

رجال العلم يقولون هذا، قاموا بأبحاث ودراسات، رجالٌ علمٍ يعرفون جيداً لوازم علم الاقتصاد، وأساتذة جامعات، وأساتذة حاصلين على درجة البروفيسور، والباحثون عن الثراء، وأصحاب رؤوس الأموال قاموا بدراسات للوصول إلى مجال الاستثمار الذي يحقّق ربحاً أعلى إذا استثمروا فيه أموالهم.

والنتيجة العلمية لذلك هي أن أكثرَ الاستثمارات ربحاً هي الاستثمارات في المجال العلمي! أكثرها ربحاً، ولكنها أكثرها كُلفةً أيضا! لذلك فإن الشركات الكُبرى، والمؤسّسات الضخمة تُنفق أقساماً كبيرة جدّاً من أرباحها لتطوير البحث العلمي.

مثلاً فلنقُل: إن عشرين بالمائة تُنفقها على طعامها، وشرابها، وأسفارها، ومزاجها، وثمانين بالمائة تنفقها على تطوير البحث العلمي، شركة سيارات، أو شركة إلكترونيات... هذا ليس إنفاقًا بلا معنى، ليس صبّاً للماء على الرمل، وليس بعثرةً للتعب في الهواء.

فبعد القيام بالبحث العلمي تلك الأموال التي تمّ إنفاقها تعود أضعافاً مضاعفة، هكذا هي المعادلة بالاعتبار الدنيوي، وبالاعتبار الأخروي أيضاً.

يمكن أن يكون الإنسان قد وُلدَ أسيراً، أو وُلِد لعائلة فقيرة، قد لا تتوفّر لديه لقمة يأكلُها، ولا غرفة ينام فيها، ولا ثوبٌ يلبسه، لكنّه يرتفع في نهاية طريق العلم، ففي نهاية تلك الطريق يصلُ إلى مرتبة ومقامٍ يُقبِّل فيه السلاطين يديه.

العلم غنًى للفقير، وقوّة للضعيف، يُقوّي الإنسان من جميع الجوانب، هذا ليس أدبًا، ليست كلمات كتبها أديبٌ، هذه نتائج وصل إليها مهندسون، وأخصّائيّو إحصاءٍ، ومُشتغلون بالأرقام يُصرّحُون بالأمر على ما هو إن كان صوابًا فصواب، وإن كان خطأً فخطأ، بعد النظر إلى حقائق كلّ شيء من جميع الجوانب والتفاصيل، ليس خيال أديبٍ، أو رجل دينٍ.

لذلك يجب على جميعنا أن يكون لنا علاقة بالعلم قطعاً.

العبادات التي نقوم بها فيها نُقطٌ فاصلةٌ، وفيها تفصيلات، والإنسان الذي لا يعرفها يقوم بالعبادة بتلك الأخطاء لا تُقبلُ عبادته، الله لا يقبلُها.

مثال ذلك: رجُلٌ يُخرج صدقة، أو يعطي زكاةً، النقود تخرج من جيبه، وتصلُ إلى يدي الفقير، عملية الأخذ والعطاء تمّتْ.

الرجل أخرج زكاته، ولكنّها لا تُقبل! لماذا؟

لأن لإخراج الزكاة تفصيلاتٍ وأصولاً، وهو لم يُراعِها، كسر قلب الطرف الآخر، وآذاه، وحطّمه، ومنَّ عليه فخسِرَ الثواب.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذٰى([1]).

لا تبطلوا صدقاتكم وزكاتكم بالمنِّ على مَن تصدّقتم عليه وأذيَّته، لا تُخرجوها هباءً.

يقول: لا تخسروا الثواب، فثواب الزكاة يمكن أن يذهب، وثواب الصلاة يمكن أن يُمحى، يمكن أن يذهب ثواب كلّ شيء، في هذه الحال كم يحرمُ المنُّ الإنسانَ من ثوابٍ، وكم من رصيدٍ لهُ يجعلُه صفرًا، وكم من نقاطٍ تمحى، معرفة هذا الأمر واجبة، إذاً هو العلم يعترضنا مرّة أخرى.

يعني هذا أن على الإنسان يعرف العبادة وآفاتها.

جعلكم الله جميعاً من عباده الذين يُحبّهم، ومن عباده المُحبّين، ومن أوليائه، ومنحكم الله جميعاً الصحّة والعافية، والغنى والاطمئنان، والسّكينة والسلامة.

وأتمنى لكم جميعا ولأولادكم وذويكم وأزواجكم وأحبابكم وأقربائكم السعادةَ في الدنيا، وفي الآخرة، ولكم منِّي جميعاً حُبّي واحترامي.

بتاريخ: 19/01/2018م.


* مجلس في أستراليا بتاريخ: 22 / 12 / 1997. 
(1) البقرة Bakara): 264).

مقالة “الاشتغال بالعلم هو أكثرُ الأعمالِ قيمةً وثوابًا” البروفيسسور الدكتور محمود أسعد جوشان رحمه الله