الطباع الحسنة والوفاء**

أنتم تعلمون أننا مدينون بالوفاء لله عز وجل. وقد عاهدنا الله على أن نعبده حق عبادته. فلا مجال لعدم رعاية هذا العهد وإلا كان ذلك إخلافا له وعدم التزام منا بما قطعناه على أنفسنا. وأكبر عهد هو الذي بيننا وبين الله.

القراءة بلغة أخرى

البروفسور محمود أسعد جوشان رحمه الله


هناك الكثير من الطباع الحسنة. فقد جعلها العلماء الذين أحصوها أكثر من خمس مائة طبع. ويجب على الإنسان أن يتحلى بهذه الطباع الحسنة. كما أن عليه أن يعرف الطباع السيئة ويتخلى عنها. وإذا فعل ذلك أمكَن له أن يكون إنسانا حكيما وكاملا وناضجا ومفيدا للمجتمع.

أنتم تعرفون أن الأخلاق هي مسألة اجتماعية. فالإنسان إذا كان بمفرده ذا أخلاق فلا معنى لذلك. ومن الأهمية بمكان أن يكون الفرد في المجتمع صاحب أخلاق.

أريدُ أن أقف عند واحدة من هذه الطّباع الحسنة. ولكن قبل ذلك أريد أن أبيّن الأمر التالي:

إن غاية ديننا والحكمة من وراء أوامر الله ونواهيه هي أن يتخلص الإنسان من الطباع السيئة وأن يكون ذا طباع حسنة.

لذلك يجب تنقية وتهذيب نفس الإنسان والتي تسمى بالإنكليزية self. فالآيات الكريمة تذكر أن الإنسان إذا حصلت له تلك التنقية يُصبح عبدا يحبّه الله.  

بسم الله الرحمن الرحيم

(قد أفلح من تزكى).

(قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسّاها). "من تمكن من تزكية وتنظيف نفسه والأنانية التي بداخله فقد أفلح. أي أنه نال النتيجة الحسنة التي يريدها في الدنيا والآخرة، ونجى من المهالك. ومن لم ينجح في ذلك فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة. يُقال عنه "أصابه الأذى والضرر، ولم يتمكن من نيل النجاح ولن يتمكن".

في حديث شريف لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ورد:

(أكثر ما يدخل الناس الجنة...). "لو بُحِث عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، لكان أوّلُها، يعني لكان أكثر سبب يُدخلهم الجنة":

(...تقوى الله وحُسن الخُلق). "الخوف من الله، التقوى، أن تكون تقيّا وذا خلق حسن".

عندما تكون طباع الإنسان حسنةً تكون أعماله وعلاقاته الدنيوية والاجتماعية جميلة، فيصبح بذلك سعيدا، كما أنه يكون قد ساهم في سعادة الآخرين. أما إذا كانت طباعه سيئة فإنه يكون سببا في تعاسة الآخرين وفي فساد نظام المجتمع. كما أنه يسبّبُ العديد من المتاعب والمآسي. والله تعالى سيُدخل في الآخرة الإنسانَ إلى الجنة بسبب حسن طبعه.

يجب على الإنسان أن يتعلم هذه الطباع الجميلة. من الجميل أيضا معرفة تلك الطباع بالاسم، لكن مجرد معرفتها بالاسم لا تكفي، فالإنسان عليه أن يكتسب تلك الطباع الجميلة. عليه أن يكتسبها ويربحها ويتحلى بها ويرسّخها في داخله.

كالعدالة مثلا: أن تكون عادلا ولا تكون ظالما ولا تظلم، هذا طبع حسنٌ مهمّ جدا. يجب على الإنسان أن يطبق هذا في كل مكان وفي كل صفحة من صفحات حياته. عليه أن يكون عادلا مع زوجته وأطفاله وجيرانه ونفسه، في عمله وفي جميع علاقاته. هذا طبع حسن. أما الظلم الذي هو عكس العدل فهو طبع سيء جدا.

قيل: العدل أساس الملك.

العدل أساس الملك، أي: "العدل هو الشرط الأساسي للحُكم. من أراد الحُكم عليه أن يكون عادلا، فالحُكم يدوم بالعدل. وإذا حصل الظلم زال الحُكم وعمّت الفوضى. إن شرط دوام الحكم والمُلك وقيادة المجتمع هو العدل.

الصبر والثبات أخلاق حسنة. من المؤكد أن هناك أشياء تزعج الإنسان ولا تُعجبُه ولا يحبها وعليه القيام بها. مثلا، عندما يبقى الطالب مخيرا بين لعب كرة القدم ومذاكرة دروسه: إذا كان أصدقاؤه يلعبون فإن نفسه تدفعه أيضا لذلك فيرغب في الخروج واللعب معهم. لكن عليه مذاكرة دروسه. هذا يعتبر سيطرة على النفس، يعتبر صبرا. يمكن أن تكون المذاكرة صعبة قليلا أو قاسية قليلا، لكن عليه القيام بها. هذا الأمر ضروري من أجل الوصول للنجاح: من أجل أن يصبح إنسانا ناضجا وفاضلا.

والصبر شرط للنصر في الحرب. فالقرآن الكريم يذكر شرطين للنصر:

واحد: التقوى. فالتقوى التي هي سببٌ لدخول الجنة شرطٌ للنصر أيضا. واحد: التقوى، اثنان: الصبر. فحتى ينتصر الإنسان عليه أن يأتي بشرطين. واحد: عليه أن يكون إنسانا يخاف الله، إنسانا محترزا، حذرا، متزنا، متجنبا للذنوب والحرمات.

اثنان: عليه أن يكون صبورا. عند الصبر يكون النصر. إذا صبر الإنسان نال ما يصبو إليه. من المؤكد أنه سيلقى العديد من الصعوبات حتى يصل إلى ما يريد، لكنه سيتذوق طعم النجاح في النهاية. فالصبر مؤلم بالتأكيد، لكن له طعما لذيذا. مثل حرارة فلفل مرعش: لها طعم لذيذ بالرغم من إحراقها للفم. وحجم سعادة النصر في النهاية لا يمكن حصرها.

والرحمة طبع جميل. فالرحمة تعني "الحزن لحال الآخرين". هي طبع جميل جدا ومهم جدا.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ شريف:

من لا يرحَم لا يُرحَم. "من لم يكن رحيما لا يرحم الآخرين لن يُرحَم"

أي "لن ينال رحمة الله. وسيلقى وباله وسينال جزاءه"

هذا يعني أن على الإنسان أن يكون رحيما.

إن أحد أبرز خصائص الأحاديث الشريفة للنبي صلى الله عليه وسلم هو كونها مفهومة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعرض أجمل الحقائق وأعمق المعاني بطريقة يفهمها الجميع ويسهل إدراكها. لذلك تجده يقوم بتشابيه أحيانا ويذكر أحداثا حينا آخر.

يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الحديث بالمعنى)

"كان هناك امرأة غير جيدة. أصابها عطش شديد بينما هي تمشي في الصحراء. فرأت بئرا، فنزلت إليه بحذر وشربت من الماء حتى ارتوت. وعندما خرجت رأت كلبا اشتد به العطش، دائخٌ من الحرارة وهو يلهث ولم يعد قادرا على المشي. فرحمت ذلك الكلب. قالت لنفسها: لقد كنت قبل قليل أشعر بنفس الإحساس. لقد كنت أنا أيضا في وضعٍ مزرٍ بسبب الحرارة تحت هذه الشمس. سأعطيه ماءً.

نزلت مرة أخرى بحذر. وبما أنه لا وجود لأوعية شربٍ في ذلك الوقت فقد أدخلت خفّها في الماء وملأته منه، ثم أخرجته وقدمته له"

قيل "فكان ذلك سببا في نيلها لمغفرة الله وعفوه ولدخولها الجنة"

هناك حكاية أخرى يحكونها كحادثة لأخذ العبرة:

غضبت إحدى النساء من قطّةٍ. ربما لأنها خدشتها أو سرقت الطعام من طنجرتنا. وربما سببت الأذى ووسّخت المكان أو مزقت شيئا. المهم أنها فعلت شيئا مما تفعله القطط، فتلك هي طباعها وذلك مما يستوجبه كونها ذات مخالب. لكن المرأة حبستها، فلاهي أطعمتها ولا هي تركتها تطلب رزقها لنفسها فتصطاد ما يلزم صيده لتطعم نفسها. فماتت القطة محبوسة هناك.

يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "فدخلت فيها النار" أدخل الله تلك المرأة النار بسبب ظلمها وعدم رحمتها.

هذا يعني أن الرحمة يمكن أن تجعل الإنسان ينال رحمة الله ورضاه، وانعدام الرحمة يمكن أن يعرض الإنسان لغضب الله وعقابه.

ومن بين الطباع الحسنة أيضا الطبع المسمى بالوفاء. أنتم تعرفون الوفاء، الوفاء شيء جميل. وهو كثيرٌ في شعبنا.

الوفاء في الأصل، يعني بالضبط كمصطلحٍ هو "الوفاء بالعهد": "وهو يعني التزام الإنسان بالوعد وبالعهد وبالاتفاق الذي أبرمه. يعني عدم إخلافه لعهده، وعدم رجوعه عن كلمته، وقدومه في موعده، والتزامه بما قطعه على نفسه.

هناك مجموعة من الأمور التي أريد شرحها عن الوفاء. أحدها أنّ في ثقافتنا شخصًا عظيما ربما لم تسمعوا باسمه أبدا: هو عبد الله بن المبارك. وهو عالم تركي عظيم وُلد في القرن الثاني للهجرة وتتلمذ على يدي الإمام الأعظم وارتحل عن الدنيا مطلع القرن الثالث. إنه عالم كبير جدا...

كان عبد الله بن المبارك تركيا، لكنه كان أكبر عالم في الشرق وفي العالم الإسلامي العظيم الذي يمتد من المحيط الأطلسي إلى الصين ومن شمال بحر الخزر إلى المحيط الهندي وإلى الحدود السفلية الأفريقية التي لا نعرفها.

كان معاصرا للإمام مالك. أي ربما كان أسنّ قليلا من الإمام مالك مؤسس المذهب المالكي –أحد المذاهب الأربعة الكبرى- أو ربما كان معاصرا له. وقد كان له مجالس معه.

لقد كان عالمنا المسمى بعبد الله بن المبارك عالم حديث كبير أولاً.

وكان عالمًا جدّيا وصل إلى أعلى مراتب الدين. كان إنسانا لا يقول كلاما بلا فائدة ولا يسمع الكلام الفارغ ويبحث في سند الكلام دائما ولا يتكلم إلا برويّة. هذه خصلة عظيمة.

ثانياُ، أن عبد الله بن المبارك صوفيّ كبير وصاحب أخلاقٍ عظيم. إنه شخصٌ ربّى نفسه وضميره بشكل جيد جدا. هو خبير في موضوع التربية وأستاذٌ فيه. وهو صوفي عظيم. وإذا كان لا بد من استخدام كلمة تفهمونها فيمكن القول بأنه وليّ.

كان عبد الله بن المبارك محاربا لا نظير له. كان ماهرا في ركوب الخيل ولا نظير له في استخدام السيف، وكان بطلا وعظيما. إنه إنسان يصلح أن تُؤلَّف فيه رواية مصوّرة.

ثم إنه ذو طباعٍ حسنة جدا. طبعا ما دام هو ذو خُلقٍ وصفاء... كانت أخلاقه حسنة وكان أستاذا في تحسين أخلاق الآخرين ومربّيا. أخلاقه حسنة وكريم وهكذا...

لا أدري هل سمعتم من قبل بأن في التجارة ثوابا أم لا. ربما يكون هذا مفاجأة بالنسبة لكم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(التاجر الصادق الأمين...). "التاجر الصادق الأمين". (...مع النبيين والشهداء يوم القيامة). "سيكون تحت ظل العرش مع النبيين والشهداء"

التاجر إنسانٌ يسعى وراء الربح، ولكن ما وصفه؟

صدوق، "يكثر من قول الصدق، وأمين، ويوثق فيه"

لأنكم تعرفون أن تبادل البضائع وظيفة مهمة جدا في الحياة الاجتماعية. وهو موضوع مهم جدا في حياة الإنسان. والإسلام لا يرى أن هذا النشاط سيء. علينا أن نُحسن فهم الإسلام.

كان عبد الله بن المبارك يتبع نظاما ثلاثيا:

يحجّ عاما ويجاهد عاما ويتّجر عاما.

ما هو الطبع الحسن الذي نحاول شرحه الآن:

"إحساس الوفاء بالعهد"

 ذهب للجهاد ذات سنة.

إلى أين ذهب ليجاهد؟

ذهب للجهاد في طرسوس.

أنا أرى أن يتم بناء نصب تذكاري في طرسوس، علينا إنجاز لوحةٍ تذكّر بقدوم عبد الله بن المبارك إلى هناك. هذا واحد من المشاريع التي أفكر فيها. لأنه شخص عظيم، فليعرف الجميع من هو.

تواجه مرة مع محارب رومي. محارب طويل القامة، قوي البنية، له درع وسيف ورمح وسهم. تواجها. وبما أنه لن يهرب فقد هاجمه وبدأ القتال بينهما. كانا بمفردهما ولا أحد معهما.

كيف تواجها؟ وهل تواجها بجانب قلعة الحدود؟ عليكم أنتم أن تكملوا المشهد في أذهانكم. لقد تقاتلا ولكن لم يتمكن أي منهما من إسقاط صاحبه. هاجم كل منهما صاحبه، فرمى هذا رمحا على هذا وهوى هذا بسيفه على هذا، لكن أحدا منهما لم يتمكن من هزيمة الآخر، واستمر ذلك لساعات...

لم يكن عبد الله بن المبارك محاربا فاشلا، لكنه لم يتمكن من هزيمة هذا الرجل. وعدم تمكنه من هزيمته يبيّن أن الآخر كان قويا وماهرا.

طلب عبد الله بن المبارك وقتا مستقطعا كالذي يُطلب في مباريات كرة السلة، فقال:

"أنا سأتعبّد، فلنوقف هذا النزال قليلا، فلنأخذ استراحة!".

فقال الآخر: "جيد، ما دمت ستتعبد فسأتعبد أنا أيضا!"

كان الرجل قاسيا وصلبا جدا.

ذهب عبد الله بن المبارك وربط حصانه في شجرة بطرف الحقل، وتوضأ من الجدول المتدفق. وذهب الآخر إلى الطرف الآخر وفعل ما فعل وفق معتقده. كانت هناك مسافة بينهما...

عندما قرأت هذه القصة أعجبتني كثيرا وابتهجت.

عندما أنهى عبد الله بن المبارك صلاته وبينما هو يدعو فكر في نفسه قائلا:

"لم أتمكن من هزيمة هذا الرجل وهو على حصانه، والآن وقد نزل من على حصانه فلأهجم عليه وأنتهي منه وهو على الأرض!"

لكن تبادر إلى ذهنه آية كريمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

(إن العهد كان مسؤولا). "الإنسان مسؤول عن عهده"

إذا أخلف الإنسان عهده فسيُسأل يوما عن سبب إخلافه للعهد الذي قطعه. عليه أن يكون عند عهده.

ومن لم يكُن عند كلمته يؤخذُ بألبابه ويُحاسب.

لقد تذكّر ابن المبارك هذه الآية الكريمة.

هذا أمرٌ يشترك فيه الفلاسفة الغربيون وغيرهم أيضا.

يقول تعالى في القرآن الكريم:

(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله).

إذا لم يشأ الله، هل يمكنكم أن تشاؤوا شيئا من عندكم؟

من أين تولد المشيئة؟

المشيئة أيضا من الله. فتمكن الإنسان من أن يشاء شيئا ويرغب به وولادة تلك الرغبة في قلبه، كلّه من الله.

والإنسان أحيانا لا يمكنه حتى تذكر ما يرغب في تذكره فلا يخطر على باله أبدا.

(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله). "إن لم يشأ الله فلن يمكنكم أن تشاؤوا. وإذا لم يرغب الله فإن آلية الرغبة لديكم لن تعمل.

من أين جاء تذكر العبد لهذه الآية؟

لقد جاء من تذكير الله له.

لماذا وردت هذه الآية في ذهنه فجأة؟

لأن الله ذكره بها.

فالله تعالى أرسل له إشارة:

"يا عبدي، يا عبد الله بن المبارك! لقد كنت عبدا لي جيدا، هل نسيت آية الوفاء بالعهد؟ كان عليك أن تفي بعهدك!"

وبما أن عبد الله بن المبارك ّفكر في هذا المعنى، فقد بدأ ذلك الرجل البطل بالبكاء، وبدأت الدموع تذرف من عينيه.

فاستغرب منه الرجل الآخر لمّا رآه يبكي بنحيب، فقال له:

"لماذا تبكي؟ هل خفت من الموت أم ما الذي حصل؟ أتبكي لأنك أدركت أن الأمر سينتهي بعد نزولك وإتمامك لصلاتك وأن حياتك ستنتهي؟"

قال: "لقد وبّخني ربي بسببك"

قال: "وما الذي جرى حتى وبّخك؟"

قال: "عندما كنت أدعو فكّرت في الهجوم عليك. فذكّرني الله بآية من القرآن الكريم تأمر بالوفاء بالعهد، فوبّخني. هل رأيت ما الذي صنعتُهُ وأنا الذي جئت إلى هنا طمعا في نيل مرضاة ربي؟ لقد سمعت التوبيخ لأنني فكرت في القيام بهذا الأمر تجاهك، فنزلت درجة، ولذلك أبكي!"

حينها بدأ الآخر بالبكاء، وقال:

"دينكم دين الحق، أنا أعلن إسلامي!"

قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وأسلم.

انظروا، الله يُذكّر عبده الذي يحبّه بالوفاء بالعهد، فيَهدي هذا الخُلق الحسنُ الرّجلَ الآخر أيضا. إن الناس يهتدون بالأخلاق. وقد فتح العثمانيون البلقان بالأخلاق. وإلا فالأمر لا يحصل بالحرب كما ترون.

هناك كلمة مفادها "أَخَذتَ روملي بيَدِ التقوى"

هذه الأمور تحصل بالتقوى.

أريد أن أذكر لكم قصة أخرى عن عبد الله بن المبارك:

ذات مرة نوى عبد الله بن المبارك الذهاب إلى الحجّ، فجاءه بعضهم يترجّونه قائلين: "رجاء، نريد أن نذهب معك للحجّ!"

فقال: "حسنا، لكن عليكم إعطائي أكياس نقودكم لتبقى معي"

قالوا: "حسنا"

ثم التحق به من التحق، وأحضروا أكياسهم. مثلا عشرة أشخاص، خمس عشرة، عشرون...

فأحضر عبد الله بن المبارك صندوقا وطلب منهم أن يكتبوا أسماءهم على أكياسهم ففعلوا، وطلب منهم وضعها في الصندوق فوضعوها. ثم خرجوا في رحلتهم من خرسان.

وكان عبد الله بن المبارك في كل مرة يدفع ثمن الاستراحة وعلف الخيل وطعام الناس وغيرها.

وصلوا إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة وأدوا مناسك الحج. ومن هناك أخذوا ماء زمزم والتمر والمسابح والهدايا، وكان عبد الله بن المبارك هو من يدفع المصاريف.

وعندما انتهى الحجّ عادوا إلى خرسان واستدعاهم إلى مأدبة. الرجل غني وتاجر. فهو غني وعالم وصوفي في نفس الوقت: عنده كل شيء. وهو شاعر وكاتب في ذات الوقت. أقام لهم مأدبة هناك، بل وقدّم لهم في المأدبة أصنافا من الطعام لا مثيل لها ولا يأكلها الناس في خراسان إلا نادرا.

وعندما انتهت المأدبة وضع الصندوق في الوسط وفتح غطاءه، فأعطى لكلّ واحد منهم كيسه بحسب أسمائهم المكتوبة على الأكياس.

ما الذي فعله؟

لقد أخذ أموالهم جميعا وأخذهم معه إلى الحج وعاد بهم، ثم أعاد إليهم أكياسهم.

لم يأخذ معه الصندوق لكنه لعب لعبة:

قال: "المصاريف تكون من يد واحدة". لكنه لم يفسح المجال للجدال بينهم في الطريق حول ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون.

كان إنسانا كريما وظريفا وطيبا.

كان ذات مرة يمشي مع صديق له. فبينما هما يمران بجانب عين ماءٍ حولها زحامٌ قال: "لقد عطشت، سأشرب ماءً من هنا".

لم يكن أحد يعرف أنه عبد الله بن المبارك. دخل بين الناس، منهم أطفال ونساء، فشرب وهو يُزاحَم ثم عاد.

فقال لصديقه: "هذه هي الحياة!"

كان إنسانا متواضعا يحب الأمور الطبيعية. ولا يحب البهرج الزائد والمديح والتبجيل المبالغ فيه. هذه هي الحياة: تُدفع وتُزَاحم ولا يعرف أحد قدرك وقيمتك وأنت مجهول. كان إنسانا روحانياً.

يمكن ذكر أمثلة أخرى أيضا، لكن الوقت قصير، لذلك سأذكر هذه المرة مثالا من حياتنا:

سأعطي مثالا من زماننا ومن حياتنا. [ذات مرة] فاتنا وقت الصلاة فدخلنا المسجد فإذا هو مغلق. فتوضأنا وفرشنا شيئا عند الرواق الخلفي لبيت الصلاة وبدأنا بالصلاة، فجاء شخصان إلى جانبنا. عندها صرت أنا إماما وصارا هما جماعة خلفي.

أنتم تعلمون أننا مدينون بالوفاء لله عز وجل.

وقد عاهدنا الله على أن نعبده حق عبادته.

فلا مجال لعدم رعاية هذا العهد وإلا كان ذلك إخلافا له وعدم التزام منا بما قطعناه على أنفسنا. وأكبر عهد هو الذي بيننا وبين الله.

لقد رأيت في كتاب تاريخٍ وصيّة الغازي عثمان لابنه الغازي أورخان. هذه الوصية موجودة في أساس الدولة العثمانية، وهي مهمة جدا ويجب علينا أخذ العبرة منها. إذا كان للإنسان وفاءٌ فليُرهِ لله أولا، وبعد ذلك أعتمدُ على عمله وقوته وكلامه.


* تم تفريغها من كلمة ألقاها المرحوم البروفيسور محمود أسعد جوشان بتاريخ 26/07/1995.

مقالة “الطباع الحسنة والوفاء*” البروفسور محمود أسعد جوشان رحمه الله