الأخلاق

للأخلاق حدود. لها خطّ سفليّ وخط علويّ، من أعلى الخط العلوي إفراطٌ ومن أسفل السفليّ تفريط، وكلى الطرفين سيء. يجب أن تكون متوازنة وموزونة. يجب أن يكون لكل شيء مقامه. إذا فتحت يديك تماما ونثرت كل ما في اليد من مالٍ كان ذلك إسرافا، وإذا قبضتها تماما كان ذلك بخلا. يجب أن نفعل كلّ شيء في إطاره العادي، ويجب الانتباه لحدوده. وبطبيعة الحال، دينُنا وسنّة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم السنية هما من يعلّماننا ويرسمان لنا تلك الحدود. فالسنة السنية هي المنبع الصافي لثقافتنا الإسلامية ولثقافتنا الصوفية. وإذا تمسكنا بالسنة السنيّة فإن الأمور التي تحدثنا عن خطوطها الكبرى باقتضاب ستحصُل بسرعة، ستحصُل من دون أن نشعر بذلك.

القراءة بلغة أخرى

البروفسور محمود أسعد جوشان رحمه الله

الأخلاق موضوع شخصي وفردي واجتماعي. هو شخصي وفردي لأنها موجودة داخل الإنسان: إنها مسألة متعلقة بداخل الإنسان، ببنائه الداخلي.

إذا كان الإنسان منفرداً، مع من سيكون تعامله الأخلاقي؟

الأخلاق هي حدثٌ يصدُر عن الحياة الاجتماعية بين الناس ويظهر معها، فهي بهذا الاعتبار موضوع اجتماعي.

هب أن للإنسان مالا ودكّانًا وليس له زبائن، ما الذي سيحصل؟

الحدث المسمى بالأخلاق يظهر عند التعامل مع الآخرين.

كلمة الأخلاق هي جمع لكلمة خُلق، حرفها الأوسط مجزوم، ساكن: خُلْق، أو يكون بضمّة: خُلُق. خُلْق أو خُلُق. وجمعها أخلاق.

خَلق يعني "خَلق وخُلِق". الله تعالى خالق، وما يخلقه يسمى مخلوق ومخلوقات. نقول: "خلق الله الإنسان والجن والملائكة". خلق... عندما يُقال: "خلق الإنسان" يرد إلى الذهن "خلقه الجسماني"، أي مظهره الخارجي: كتفيه، ساعديه، وجهه، حاجبيه، عينيه، أعضاؤه، جوارحه... هذا الخلق... عندما يقال "خَلقُ شخصٍ" يرد إلى الذهن "بدنه المادي المخلوق". وعندما يُذكر خُلُقه أو خُلْقه فهذا يعني "خلقه غير الظاهر كسيرته وروحه وأخلاقه وبنائه الداخلي".

نقول للمظهر الخارجي "صورة". والصورة هي المظهر الذي تم تشكيله وتصويره. ويُقال للداخل "سيرة". والسيرة في الأصل تعني "الذهاب"، وهي من السَّير. حال الدّاخل وسَيرُه، سيرته.

الصورة والسيرة.

رُوي هذا الحديث الشريف:

(ما حسّن الله خَلق امرئ وخُلقه فتطعَمه النار)

استُخدمت في هذا الحديث الشريف كلمتا الخَلق والخُلق سويا، لذلك ذكرناه.

(ما حسّن الله خَلق امرئ)، "إذا حسّن الله خَلق شخص ما، أي إذا كان جسمه ممشوقا وجميلا" (وخُلقه) "وإذا حسّن أيضا أخلاقه وداخله وسيرته وحاله وسلوكه" فتطعمه النار "فتأكله النار بعد ذلك"، هذا غير ممكن. لا تأكله، أي أنه لا يدخل جهنم ولا يكون من أهلها.

هذا الخُلق -أي بنية الإنسان الداخلية غير الظاهرة وأوصافه- نوعان: أحدهما خِلقي من الخِلقة، نقول عنه "فطري، خِلقي، وهبي، جِبِلّي"، أي الشكل الذي خُلِق به الإنسان.

مثال، شخص يتكلم بسرعة:

"يا أخي لا أستطيع أن أفهم كلامك، تكلم ببطء، تكلم كلمة بكلمة". تلك هي طبيعة كلماته وترتيبها وخلقتها. هذه الخِلقة، وخميرتها –خميرة: يشبه الأمر إضافة الخميرة للبيض والسكر وبقية المكونات عند صنع خبزٍ أو كعكة- وخليطها يسمى مِزاج. والمزاج أصلا يعني "الشيء الممزوج".

بسبب المواد المُضافة إلى مزاجه يكون الشخص ثقيلا أو سريعا أو عصبيا أو هادئا أو غير ذلك. والأشياء الموجودة في خميرته في شكل عناصر كالأكسيجين أو الهيدروجين أو غيرها لا تتغير أبدا. إذا كان في خِلقة شخصٍ ما عجلة فهو عجول. وإذا كان في طبيعته هدوء فهو هادئ. أما الإنسان الذي ينفجر بسرعة فقد يكون طيب القلب لكنه متسرع؛ ينفجر ثم يندم ويعتذر وهكذا. وإذا كان هادئا فهو هادئ، فبعض الناس لا ينبس بشفة ولا يحرك جبينا ولا تتبدل صورته ولا يتغير لونه.

المخلوقات مختلفة فيما بينها. والأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات مختلفون فيما بينهم. موسى عليه السلام عصبيّ، أخذ بلحية هارون عليه السلام عندما نزل من جبل الطور، حيث وجد تمثال ثور مصنوعا والناس يعبدونه، لم يكن له ياقة فأمسك بلحيته، ولو كانت له ياقة لأمسكه منها. أمسك بلحيته:

"يا أخي، ألم ترى هذا الوضع؟ كيف سمحت بصناعه ثور كهذا؟"

يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي

" يا ابن أمّ"

كان هذا جواب هارون كما بين القرآن الكريم

" يا ابن أمّي لا تمسك رأسي ولحيتي"

أي أنه أمسك برأسه أيضا بفعل الغضب، هذا موسى عليه السلام. لقد غضب؛ "لم يبالي بي الناس وتجاهلوني ولم يعيروني اهتماما"

قال: وكادوا يقتلونني، "حاولوا قتلي، لم أتمكن من السيطرة على هؤلاء الغاضبين، لم يحصل الأمر بإرادتي، لا تؤاخذني".

تلك هي طبيعة هارون عليه السلام وتلك هي طبيعة موسى عليه السلام. كلاهما نبي.

إبراهيم عليه السلام.

(إن إبراهيم لأواه حليم). "إبراهيم عليه السلام حليم جدا، وهو كثير التأوه والبكاء وذو قلب حساس".

أوّاه، أي "كثير التأوّه". أي أنه شخص عاطفي جدّا: الجانب العاطفي فيه عميق وواسع جدا.

أما عيسى عليه السلام فطبيعته مختلفة.

وطبيعة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم هي الأجمل والأكثر تناسقا. والقرآن الكريم حوى بداخله جميع الكُتب.

(فيها كتب قيّمة). "جميع الحقائق وجميع المواد والمعلومات التي أنزلت على الأنبياء القدامى موجودة في القرآن الكريم".

الصحف المنزلة الى إبراهيم عليه السلام، جميع الصحف المنزلة على الأنبياء من توراة وإنجيل وزبور، جميعُ الحقائق الموجودة في كل ما نزل موجودة في القرآن الكريم.

جميعها؛ جميع الأديان والوحي الإلهي القديم، أصلها وأساسها وزبدتها هو الإسلام الذي ندين به الآن. فالإسلام هو الدين الذي جمعها كلها تحت سقف واحد، هو خلاصتها ومنتهاها وزبدتها ومعرضُها. معرض! جميعها موجودة في داخل الإسلام.

ومعرضُها. معرض! جميعها موجودة في داخل الإسلام.

مجموعة الطِّباع المختلفة التي لدى جميع الأنبياء موجودةٌ لدى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. أشرف وأكرم الرسل! "أكرم الأنبياء والإنسان ذو الأوصاف الاستثنائية من كل وجه".

الحمد لله والشكر له أن جعل لنا هذا المثال الذي يُحتذى به. لقد دُوِّن ما قام به طول حياته سطرا بسطر ولحظة بلحظة وساعة بساعة ويوما بيوم. وهو ذروة الإنسانية، وهو أرقى إنسان وأعلى الأنبياء مرتبة! هذا منالٌ عظيم.

قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعلى منزلة في الجنة وهو يعني بها المقام المحمود: "منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو"

صاحب المقام المحمود والخُلق العظيم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.

كان مثالا في الأخلاق. كانوا يسألون عن أخلاقه حتى يتحلوا بها:

"ما خُلقه؟"

وبما أن أمّنا عائشة هي زوجته المطهرة فقد سألوها هي:

يا أم المؤمنين خبرينا عن أخلاق سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كانت؟

فأجابت: "ألستَ تقرأ القرآن؟"

"كان خُلقه القرآن".

إنه إنسانٌ أدرك جميع الآيات التي ذكرها القرآن الكريم وجميع الأهداف التي بينها ونفّذها جميعها!

"كان خُلقه القرآن". أي أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كان قرآنا حيّا يمشي. فالسطور التي في المصاحف مجسّمة في سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال تطبيقه لها في الحياة. كان عليه الصلاة والسلام قرآنا حيّا مجسّما ومتشكّلا.

كيف كانت أخلاق سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم؟

أمّنا عائشة امرأة ذكية وعالمة ولها خصال علميّة عظيمة.

قالت: "ألستَ تقرأ القرآن؟"

"كان خُلقه القرآن"

وسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم طبّق فعلا كلّ آية نزلت عليه في حياته. مثلا –أنا أقول هذا حتى يكون نموذجا مجسما ومثالا لنا- عندما نزلت (سبح اسم ربك الأعلى) قال عليه الصلاة والسلام: "اجعلوها في سجودكم". وعندما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال عليه الصلاة والسلام: "اجعلوها في ركوعكم".

نزلت الآية فتَحدّد مكان تطبيقها فورا، طُبِّقت مباشرة. هذا المثال يمكن أن يبقى في البال. ما من آية نزلت إلا وطبقها سيدنا عليه الصلاة والسلام، وتصرّف وفق مقتضاها. وحياته كانت صورة مجسمة للقرآن الكريم انعكست على الحياة فكان بالإمكان تحسسها بالأيدي ورؤيتها بالعين وسماعها بالأذن وفهمها وإدراكها من قبل الجميع.

بما أن الخُلق هو البناء الداخلي للإنسان فإننا نسميه بالتركية "هوي"/ طبع. نقول أخلاقه و "هويلري"/ طباعه. يمكن أن تكون جيدة كما يمكن أن تكون سيئة، فالإنسان يمكن أن يكون ذا خلق جيد كما يمكن أن يكون ذا خلق سيء، أو يمكن أن يكون بعضها جيدا وبعضها سيئاً. لذلك سُمِّي الخلق الجيد بالخلق الحسن، أو بالإضافة: حُسن الخُلق. التركيب الوصفي "الخلق الحسن" يأتي بنفس أسلوب التركيب الإضافي "حسن الخلق". حُسن الخلق يعني "جمال الخلق"، والخلق الحسن يعني "الخلق الجميل".

ويقال مكارم الأخلاق، أو محاسن الأخلاق، أو فضائل الأخلاق، أو أفاضل الأخلاق.

وفي مقابل ذلك وردت في الأحاديث الشريفة كلمات مثل الخُلق السيئ أو خُلق السوء أو سوء الخلق، أي سوء الطبع. والطباع الموجودة في خِلقة الإنسان، في جبلّته، في فطرته، في مزاجه، في خميرته، في بنائه المادي، في مادته لا تتغيّر فهي ثابتة. وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خُلُقه فلا تصدقوا".

أي أن خليط الطبيعة ومادتها هكذا. الماء ماءٌ، والزيت زيتٌ، والحديد حديدٌ، والذهب ذهبٌ. هكذا هي الطبيعة، هذه لا تتغير.  

غير أن العديد من الطباع تكون كسبيّة. أدبُ الدرس درسٌ، يمكن أخذه وتعلّمُه بالدرس والتدريس والتعليم. هو موجود كقابلية داخل الإنسان، وبالإمكان تطويره.

يقال أنه إذا وُلد صغيرٌ –كصغير إنسان أو صغير طائر أو صغير دجاجة أو صغير قط وغيرها- في الظلام ونشأ وتغذى فيه فإن عينيه لا تنموان. لأن العينان تنموان بعد الولادة بفعل النظر بهما. كما أن أذنيه لا تنموان في بيئة لا صوت فيها أبدا. أي أن النمو يكون شيئا فشيئا. وكذلك يمكن للإنسان أن يحوي في داخله خميرة طباعٍ حسنة في شكل قابلية مبدئية. تلك المادة في موجودة في مزاجه، في عجينته، لكنها تحتاج إلى تنمية. ويكون ذلك بالتربية. فبالتّربية تخرج الكثير من الأشياء التي بقيت مخفيّة تحت الأرض. لذلك جاء القرآن. ولأجل تربية الناس وتعليمهم وتوعيتهم جاء الأنبياء. أي أن ذلك ممكن! فقد جاءت من عند الله الأوامر والنواهي. يمكن القيام بذلك، ويمكن إصلاحه. فإخراج هذه الطباع من الأماكن الكامنة فيها يكون بالتربية وبالتعليم.

حسنا سنُربي ولكن ما الذي سنُعلّمه؟

الأمريكي يعلّم بطريقةٍ، والإنجليزي يعلّم بطريقةٍ، والتركي يعلّم بطريقةٍ، والصيني يعلّم بطريقةٍ، والهندي يعلّم بطريقةٍ، والقروي يعلّم بطريقةٍ، والمدني يعلّم بطريقةٍ.

ما الذي سنعلّمه وكيف سنعلّمه؟

يمكن أن تتغيّر مواضيعُ الأشياء التي تُعلَّم.

في ثقافتنا حصل هذا التعليم في التّكايا. كانت المعلومة تؤخذ من المدرسة، والأخلاقُ من التّكيّة. وقد كان هذا التعليم يُقدَّم بشكل مثالي.

كان ذلك التعليم يحصل من خلال تربية النفس. تتربّى نفس الإنسان فتُصبح أخلاقه حسنة. تتربّى النفس فيصبح بإمكان الإنسان أن يضع سدّا أمام أهوائه، ويتمكن من السيطرة على نفسه، وتتقوّى إرادته. كما يكفّ عن اتباع هواه ويبدأ بالتصرف وفق مقتضى عقله وعلمه وعرفانه. هناك من تربوا هذه التربية فأصبحوا أناسًا عارفين جدا وكاملين جدا ورائعين جدا. نحن نعرفهم، ونقرأ كتبهم، ونقرأ أشعارهم الإلهية، ونحبهم، ونعتبرهم مثالا لنا، ونفتخر بهم.

الدولة العثمانية كانت في هذا الموضوع دولة مهمّة في تاريخ العالم! لقد كانت دولة بالغة النجاح في هذا الخصوص! وإذا كان لا بد من تقييمها بجوانبها الإيجابية والسلبية معًا فيمكن القول بأن أرقى جانب فيها هو حسن عنايتها بتربية النفس وحسن الأخلاق، بالإضافة إلى تنظيمها لهذا الأمر كدولةٍ وكمؤسسات دولةٍ. فقد نُظِّمت التّكايا وأُسِّست بشكل جيد. نُظِّمت تعييناتها وهيئات مُتولِّيها: نُظِّمت تعيينات تلك الهيئات ونُظِّمت رقابتها. وهو ما أدى بالفعل إلى اكتساب السيّد العثماني شهرة بالغة في العالم.

التربية الصوفية هي تربية الاتباع لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم والتحلي بأخلاق القرآن الكريم: هذا التعليم. أما مكانها فهو التكية.

التكية هي مكتب الأدب والأخلاق. هي مكتب التطبيق، حيث لا يبقى الأمر مجرد كلام بل يتحلى به الإنسان.

مكتبٌ ومدرسة: عملٌ ذو جانبين. التربية والتعليم. لماذا أعطوا للأمر كل هذه الأهمية؟ لأن "حسن الخُلق نصف الدين" إنه مهم جدا.

 رُوِي عن أنس رضي الله عنه أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حُسن الخلق نصف الدين".

إنه مهم جدا. وفي حديث آخر قال: " عليكم بحُسن الخُلق فإنه في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإنه في النار لا محالة ".

 رُوي هذا عن سيدنا علي رضي الله عنه.

"عليكم بحُسن الخُلق"، فليكن حسن الخلق دينا في رقابكم، فلتكن أخلاقكم حسنة، تحرّوا ما تفعلون واكتسبوا هذا الوصف. لأنه في الجنة لا محالة.

"وإياكم وسوء الخلق"، أما سوء الخُلق فأُحذركم منه. إياكم، لا تقربوه، ابتعدوا! إياكم أن يكون خُلُقكم سيئا! أنا أحذركم، "فإنه في النار لا محالة".

الخُلق الحسن في الجنة، والخلق السيئ في جهنم. طبعا هذا يعني أن الطباع الحسنة في الجنة والطباع السيئة في جهنم. ثم هناك حديث آخر نعرفه، هو مشهور وانتهى إلى الآذان.

" أكثر ما يدخل الناس الجنة : تقوى الله وحسن الخلق ".

أكثر الناس سيدخل الجنة من هنا! أي إذا تم إجراء إحصاءٍ أمام باب الجنة حول سبب دخول الناس إليها فسيتضح أن أكثرهم يدخلونها بسبب حُسن خُلقهم. لا يدخلونها بسبب كثرة صلاتهم وكثرة إتيانهم بالعبادات الظاهرة وإنما بسبب حسن خُلقهم.

هناك حديث شريف آخر، عن أبي الدرداء رضي الله عنه:

" أثقل شيء في ميزان المؤمن خُلقٌ حسن، إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء ".

من المعلوم أن أفعالنا تُدوَّن، فالملائكة يكتبونها، وستظهر جميعها في الآخرة. سيُحاسب الإنسان وستُوزن تلك الأفعال بالميزان الإلهي، ميزان الآخرة. ستُوزن أفعال الخير وأفعال الشر والثواب والمعاصي. إنه ميزان كبيرٌ جدا لدرجة أن كفّته تسع السماوات والأرض. واسعٌ لدرجة أنه يسع كل شيء. إنه ميزان ترتعد الملائكة من هيبته فتنزوي وهي ترتعش.

إنه مشهد عظيم، إنه شيءٌ له منظر عظيم. وهنا، في هذا الميزان، أكثر شيء ثقلا هو الخُلق الحسن. أما الخلق السيء فهو شيءٌ لا يحبه الله. أي أن هذا الخلق الحسن هو سببٌ لدخول الجنة في الآخرة، لأنه يُثقل الميزان ولأنه شيءٌ يحبه الله. كما أن له فائدة في الدنيا. هناك حديث شريف آخر يتحدث عن فائدته في الآخرة وهو:

" الخُلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخُلق السوء أو الشرّ يفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل".

رُوي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

من المعلوم أننا إذا أردنا إخراج الثلج من قالبه بعد تجميده في الثلاجة نضعُه تحت صنبور الماء فيخرج فورا، لأن الثلج يذوب.

"مثل ما يذيب الماء الثلج".

كذلك يُذيب حسن الخُلقِ الخطايا والذنوب كما يذيب الماءُ الثلجَ. "وخُلق السوء يفسد العمل" يفسد العمل الصالح الذي قام به الإنسان، يجعله فاسدا، يُهلكه، يجعله عفِنًا، يفسده! "كما يفسد الخلُّ العسلَ" كما يجعل الخلُّ من العسل حامضا ويفسده! كما يجعل الخلُّ من العسل حامضًا، كذلك يفسد الخلق السيء العمل الصالح ويجعله حامضا ومتعفِّنا ويُنهيه!

يفسد العمل "يفسد العمل ويبطله. يجعله باطلا ولا معنى له!"

يمكن أن يكون الشخص قد عمل العديد من الأعمال الصالحة وفعل الخير والحسنات، كبناء حنفية ماءٍ وبناء مسجد وإطعام الجوعى وكساء العرايا. يكون قد عمل أعمالا حسنة لكن سوءَ خُلقه أفسد الثواب الذي اكتسبه من وراء تلك الأعمال وجعله متعفّنا وأنهاه.

ومن المؤكد أنكم تعلمون جميعا الحديث الشريف الذي ذُكر فيه هذا الأمر من خلالِ خُلقٍ سيء هو الحسد!

يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحطب".

أي أن الإنسان إذا كان حسودا فإنه يفقدُ شيئا فشيئا ثواب الصلاة التي صلاها والصوم الذي صامه والحسنات التي اكتسبها. لأنه حسود! هذا يعني أن الخُلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسلَ. وكما يذيب الماء الثلج يذيبُ الخُلق الحسن الذنوبَ ويقضي عليها فيُنقذ الإنسان.

لذلك يجب أن يتحلى الإنسان بالخُلق الحسن، وبذلك يكون تجنب الخُلق السيء شرطا وفرضا. إنه للُطف من الله عظيمٌ أن ينال المرءُ توفيقا إلاهيا ويكون ذا خُلق حسن.

لأن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث قدسي شريف أنّ الله تعالى يقول: "خلقتُ العباد بعلمي" خلقتُ العباد بعلمي الأزلي " فمن أردت به خيرا" من أردت به خيرا من عبادي هؤلاء "منحته خُلقا حسنا" جعلته ذا خلق حسن، أكرمته بخلق حسن، منحته خلقا حسنا!"

هذا يعني أن العبد الذي منحه الله خلقا حسنا سينال الخير.

"ومن أردتُ به سوءا" أما العبد الذي أردت به سوءا وقدّرتُه عليه "منحته خُلقا سيئا".

هذا يعني أن الخلق الحسن إكرام من الله، والخلق السيء بلاء وجزاء، والنتيجة: كارثة.

ذكرنا أحاديثَ شريفة عن الخُلق الحسن وعن فوائده المعنوية والأخروية. لكن له فائدة مادية أيضا، نفهم هذا من الحديث الشريف.

روت أمُّنا عائشة الصديقة حديثا شريفا حول هذا الموضوع: حديثٌ مهمّ. يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم:

"صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، يعمرن الديار ويزدن في الأعمار"

صلة الرحم و[حسن] الجوار هي أصلا انعكاسٌ للأخلاق. جميعها تمنح سعادةً للبلدات وتكون سببا في زيادة العمر. الصلة تعني "الوصل والالتقاء". والرحم تعني "الأقرباء". يجب على من لديهم صلة قرابةٍ فيما بينهم أن يصلوا بعضهم وأن يُديموا تلك القرابة. عليهم أن يتزاوروا وأن يقبلوا الأيادي وأن يتفقد بعضهم بعضا في الأعياد.

وتحت تعبير صلة الرحم هذا يوجد معنى آخر لا يقفُ عنده بعض الناس، كما أن الكُتب لم تذكُره صراحةً. لقد وصلتُ إلى هذه القناعة بقوّةٍ من خلال التمعّن في استخدامات هذا التعبير. صلة الرحم لا تعني مجرد "الزيارة"، بل تعني أيضاً "الدعم المادّي". تعني "وضع بعض المال في الجيب، وإعطاء هدية، وسدّ الحاجة". لا تكون زيارة جافة!

حسن الجوار يعني "الإحسان للجيران". يجب على المسلم أن يولِي اهتمامًا بالغا بمُعايشته لجاره، وإن كان الجار غير مسلم! لأن له حق الجوار.

له حقّ الجوار وإن كان غير مسلم. بمجرد إسلامه تصبح حقوقه أقوى وتزداد. وإذا كان قريبًا ترتفع حقوقه أكثر!

الأحاديث الشريفة كثيرة، لكنني سأقول منها حديثين آخرين.

"إنما تفسير حسن الخلق ما أصاب من الدنيا يرضى، وإن لم يصبه لم يسخط".

هذا حديث شريف.

ماهي مظاهر حسن الخُلق؟ كيف سيتعامل صاحب الخلق الحسن؟

في الحديث الشريف المذكور يُعطي سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أمثلةً عن ذلك:

"إذا أصاب شيئا من الدنيا رَضِي وشكر. يحمدُ الله ويشكره. وإذا لم يُصبه منها شيء، إذا لم ينل شيئا لا يسخط! إذا أصابه شكر وإن لم يصبه لم يسخط. هذا هو حسن الخُلق. هذا ما يوجِبُه حسن الخُلق"

كان النّاس الملتفّون حول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم مختلفين في ثقافتهم وفهمهم وأدبهم ومستويات أخلاقهم. بعضهم جاؤوا مجموعاتٍ وأسلموا، لكنهم مازالوا لم يدركوا بعد رِقّة الإسلام. لم يكونوا قد انسلخوا وخرجوا تماما من البداوة. ولم يكونوا قد تخلوا تماما عن تقاليد البداوة وعاداتها وموروثاتها.

(فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون).

كان سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته الزكاة يوزعها على الفقراء. كان سخيّا جدّا. لكن بعض الناس من غير الناضجين كانوا يفرحون ويرضون إذا أعطاهم حصّةً ويغضبون إذا لم يعطهم.

هل يغضب رسول الله؟

هناك سببٌ لعدم إعطائه. لقد أعطاكَ المرة الماضية لذلك لم يُعطِك هذه المرّة! أو أنّ هناك شخصا آخر أشدّ احتياجا منك. طبعا إسلامٌ كهذا لا يجوز، أي أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطاه ولا يحبه إذا لم يعطه. شيء كهذا لا يجوز!

إذا أعطاه الله أحبّه ورضي، وإذا لم يعطه لم يرض.

لا يجوز!

يجب أن تُطاع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم في حال الرضى وحال الغضب، في الحال الذي تهواه النفس والحال الذي لا تهواه النفس. طبعا أحوال المرشدين والأشياخ أيضا كذلك لأنهم وُكلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. يبدو أنه من الواجب معاملتهم بنفس الشكل وإظهار التحمل لأن ذلك "امتحانٌ وأمرٌ".

كان سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يضع شروطا لمن يبايعه من الناس. كان يقول لهم أثناء عقد البيعة:

"في المكره والمنشط". كان يأخذ عهدًا مفادُه: في كل الأحوال، سنُطيع في الوضع الذي لا يُعجبنا وفي الوضع الذي يُعجبُنا، ولن نعصي، وسنمتثل لأوامره ولن نحيد عنها!

"في المكره والمنشط". المكره هو الأمر الذي تكرهُه النفس ولا يُعجبها. والمنشط يكون في الأوضاع التي تُعجِب، واللطيفة والحلوة. كان يأخذ عهدًا مفادُه سنُطيع في الحالين!

ماهي الطّباع الحسنة وماهي الطّباع السيئة؟

إذا أردنا الآن أن نعُدّ ونشرح منها خمس مائةٍ لن تكفينا ثمانية أيام ولا ثمانية عشر يوما، بل يلزمنا ثمانون يوما. لأن الطباع الحسنة كثيرة. فلنتحدّث عن بعض الأحاديث الشريفة لسيدنا صلى الله عليه وسلم حول هذا الموضوع.

خلال دراساتي المتواضعة حول المنهجية التعليمية لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أدركتُ الأصل التالي:

عندما يشرح سيدُنا صلى الله عليه وسلم موضوعًا ما يشرحُه عبر دفعاتٍ صغيرة. فيقول مثلا "في هذه المسألة انتبهُوا لهذه الأمور الثلاثة!". في حين أن في تلك المسألة ثلاثون أمرا يجب الانتباه له ربما. لكنه يذكر منها ثلاثة. أنا أشبّهُ هذا بالأمر التالي: تمرضُ فتذهبُ للدكتور، فيقول لك "خذ هذه الحبوب، وكُل منها واحدة في الصباح وواحدة في الظهر وأخرى في المساء". أو يقول "تناولْ نصف الحبة، اقسِمها من الحزّ الذي في منتصفها وتناول نصفها"

والآن سأُعطي بعض الأمثلة من أحاديث سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حول موضوع "ما الأخلاق؟ وماهو حسن الخُلق؟":

"مكارم الأخلاق عند الله ثلاثة: تعفوا عمّن ظلمكَ وتعطي من حرمك وتصِل من قطعك".

رُوي هذا عن أنسٍ رضي الله عنه.

هناك العديد من الروايات الأخرى التي تتعرض لنفس المعنى والتي تشبه هذا الحديث، وهذا من بينها.

يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "مكارم الأخلاق ثلاثة".

"تعفوا عمّن ظلمك".

كيف يكون الظلم؟

هوَ ظلمك: عارضك وضربك وكسرك وأحزنك وهكذا. وأنت تعفوا عنه وتسامحه.

"وتعطي من حرمك". تُعطي من حرمَك ومنعك ولم يعطك!

هو بخِل عليك ولم يعطك، وأنت تعطيه!

العفو على من ظلم وإعطاء من لم يعطي.

"وتصِل من قطعك". تذهبُ إلى من قطع علاقته بك وصداقته معك!

العفو على من ظلم، وإعطاء من منع، والذهاب إلى من لا يذهب. 

هذه أمورٌ ثقيلة على النفس وهي في الحقيقة موجودة في أصل الأخلاق، موجودة في أصل أخلاق الإسلام. الإعطاء بلا مقابل. أن لا تكون تصرفاتي وفق تصرفات الآخرين! في الإسلام ليس الأمر هكذا. فليكُن الآخر من يكُن، تصرفاتي لا تتغير. أن أحسِنُ لمن ظلم، وأذهب إلى من لا يأتي، وأعطي من يمنع. أخلاقنا ليست كأخلاق الغرب.

نحن نفعل ذلك من أجل مرضاة الله. نعفُو لله ونعطي من يمنع لله. ولله نصالح من غضب منا وقطع علاقته بنا. علينا أن نذهب. عندما أقول "نذهب" فأنا لا أقصد "يمكننا فعل ذلك"، لأننا نستصعب ذلك ولا نقدر عليه. إذا نظر أحدهم إلينا باحتقار، تمام! إذا أومأ بشيء، انتهى! إذا حصل جدال صغير، تمام!

كم كانت حياة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم مذهلة من هذا الجانب، فهي مليئة بالعديد من الأمثلة. لقد وصل الأمر في مكة إلى حدّ محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم. كم سلطوا من ظلم عليه. لم يسمحوا لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في المدينة التي وُلد فيها والتي كان قادتُها أجدادُه، وقرروا قتله. عذبوه وحاصروه وجعلوه يعاني أزمة اقتصادية. سببوا الأذى لابنته وله هو، ولم يسمحوا له بالعبادة، وعذبوا أصحابه.

وماذا فعل هو عند الفتح؟

لقد عفا عنهم جميعا! حتى أنه أوقَفَ قادَته بسرعة. أقالهم من مهامّهم في الجيش لأنهم كانوا يسعون بغضب ويضربون بسيوفهم يمنة ويسرة.

قال "من دخل الكعبة عُفي عنه! من دخل البيت الفلاني عُفي عنه! من دخل إلى هناك فهو آمن!"

هذا إذاً مثال رائع عن العفو عمّن ظلم، إنه فتح مكة. دخلها قائدا مظفرا، وكان بإمكانه أن ينتقم. كان بإمكانه أن يواجه كل واحد منهم ويقول "لماذا فعلتَ في اليوم الفلاني كذا؟ وأنت لماذا آذيت بلال الحبشي؟ وأنت لماذا فعلت لفلانٍ كذا؟ وأنت لماذا وضعت سلى الجزور على ظهري؟". لكنه مَحَى كل ذلك ونبذه.

لقد سامح المخلوق لأجل الخالق.

ويونس [أمره] أيضا كان إنسانا كثير العلم، فقد فهم هذه المسألة بشكل جيد جدا.

[يقول:]

يجب أن يكون بلا يد أمام من ضرب

يجب أن يكون بلا لسان أمام من شتم

يجب على الدرويش أن يكون بلا رغبات..."

هذا هو الحديث نفسه في شكلٍ منظوم. هكذا ترجمه يونس [أمره].

إن كرم سيدنا صلى الله عليه وسلم بالغٌ لدرجة أنه يمكن أن يكون ملحمةً تتداولها الألسن! لكننا لا نستطيع فعل ذلك. لا أقول الأموال التي ندخرها لشهواتنا وأهوائنا وأذواقنا، بل حتى الأشياء التي نخبّؤها في بيوتنا ولا نستعملها لو أننا بعناها لجهّزنا بها جيشا في تركيا. لأنني أدركت أمرًا عندما كنت أقرأ بعض البحوث الاقتصادية: المُصنّعون والاقتصاديون يقولون "يجب خلق الحاجة أولا". هذا تعبير اصطلاحي. أستغفر الله العظيم. أي أن الناس لا حاجة لها، لكن أنت عليك أولا أن تبُثّ كذبا مفادُه وجود حاجةٍ، تنفخ في الكذبة وتؤجّجُ نارها. ثم تجعل الناس يقتنعون بالحاجة إلى ذلك الأمر. في الأصل لا وجود لحاجةٍ لكنّك تخلقُها. ثم تُجهّز المُنتَج بعد ذلك وتطرحه في السوق لتبيعه بيُسر، وتضع المال في جيبك. الاقتصادُ يعتمد على هذا.

في بيوتنا لدينا العديد من الخزائن والذهب والفضة والأطباق والصحون والصِّحاف والمزهريات والسجاد. كل واحدة منها ذات قيمة. السجاد مثلا يساوي الكثير من المال. لو أننا جمعنا سجادنا فقط، كم من المصانع كنا سنبني وكم من الأشياء كنا نفعل. لكن الأمر على ما هو عليه لا يتغير. يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شريف آخر فيما معناه : "محاسن الأخلاق عشرٌ: هي أنبل الأخلاق. هذه الأخلاق تكون أحيانا في الرجل ولا تكون في ولده، وأحيانا تكون في الولد ولا تكون في أبيه. وأحينا تكون في العبد ولا تكون في سيده، وأحيانا تكون في السيد ولا تكون في عبده! فالله يجعل هذه الأخلاق الحسنة من نصيب من أرادَ له السعادة ".

عليكم أن تقرؤوا إحياء علوم الدين، فهو كتاب أخلاقٍ مهمّ جدا. قام الإمام الغزالي في هذا الكتاب بعرض الأخلاق بشكل مفهوم وواضح ومقروء من خلال تحليلها وعرض فلسفتها وشرح أشكالها وتقديم أمثلة عنها.

لشيخنا [محمد زاهد كوتكو] كتابٌ في الأخلاق الصوفية. ولإبراهيم حقي الأرضرومي معرفتنامةٍ [(جنسٌ من التآليف)]. لكن الإحياء يُعدّ من الكتب المصدرية. وهو موجود في بيوت الجميع. أنا أوصيكم بقراءة هذه الكتب وختمها وإعادة قراءتها مرارا.   

للأخلاق الحسنة أضداد وآفات. فآفة الكرم مثلا، هي المنّ. أنت كريمٌ، جميل، لكنك بمنّك تبطل ذلك الكرم فيكون هباء. وآفة الحِلم الغباءُ. فللحِم مقامه: افتح عينيك وانتبه. وآفة الكرم الإسراف. يجب الانتباه إلى هذه الأمور وإلى حدود الأخلاق.

للأخلاق حدود. لها خطّ سفليّ وخط علويّ، من أعلى الخط العلوي إفراطٌ ومن أسفل السفليّ تفريط، وكلى الطرفين سيء. يجب أن تكون متوازنة وموزونة. يجب أن يكون لكل شيء مقامه. إذا فتحت يديك تماما ونثرت كل ما في اليد من مالٍ كان ذلك إسرافا، وإذا قبضتها تماما كان ذلك بخلا. يجب أن نفعل كلّ شيء في إطاره العادي، ويجب الانتباه لحدوده.

وبطبيعة الحال، دينُنا وسنّة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم السنية هما من يعلّماننا ويرسمان لنا تلك الحدود. فالسنة السنية هي المنبع الصافي لثقافتنا الإسلامية ولثقافتنا الصوفية. وإذا تمسكنا بالسنة السنيّة فإن الأمور التي تحدثنا عن خطوطها الكبرى باقتضاب ستحصُل بسرعة، ستحصُل من دون أن نشعر بذلك.

إن دين الإسلام لباسٌ رائع يناسب الجميع. إنه لباس سحريّ سرّيّ عجيب يناسب جميع الأبدان والعقول بشكل جميل جدا. يُقنع الجميع ويسوق الجميع إلى الطريق الحق. ليس هناك من نظام يضاهيه جمالا. [فالأنظمة الأخرى] إما أن تخاطب المثقف فلا يفهم الجاهل شيئا، وإما أن تخاطب الجاهل فلا تقنع المثقف. أما الإسلام فإنه نظام مذهلٌ يقنع الجميع، فإذا امتثل له الإنسان لم يعد هناك من لزوم لمؤتمرات الأساتذة. لأن كل المواد تصدر من هناك: من السنة السنية.

إن ثقافة الإسلام هي السنّة السنيّة.


* تم تفريغ النص من محاضرة للمرحوم البروفيسور محمود أسعد جوشان بمدينة يالوا في 05/02/1992.

مقالة “الأخلاق *” البروفسور محمود أسعد جوشان رحمه الله