هذا الذي يفكّر في داخلي يسعى لإيجاد "أنا موجودةٍ فيَّ، في داخلي". وجدها يونس. ثمّ وجدها هو (ديكارت) أيضا، فقال:
"أنا أفكر، إذا أنا موجود".
أنا أفكر إذاً أنا موجود. أنا موجود، إذا هناك من أوجدني. وإذا كان هناك من أوجدني وبَنَى هذا النظام في الكائنات، إذا كان خالق هذه الشمس وهذا القمر ومُفتّحُ هذه الأزهار وهذه الأشجار قد خلق هذه الحياة من هذه الجمادات غير الحية من الطبيعة، وإذا كانت هذه الحياة تسير نحو اتّجاهٍ ما، فإن هناك من يوجّهها، هذا واضح جدا...
القراءة بلغة أخرى
يُعلمُنا إيماننا بأنّ لوجودنا سببا وهدفا وأنّ للكائنات نظاما، وكذلك من حيث الفلسفة توصِلُنا المجهودات الفكرية للفلاسفة إلى تلك النقطة. نحن بنو الإنسان، والكائنات الحيّة من حولنا والجمادات والكون والكائنات كلّها منظّمة. ويجب أن يكون لهذا النظام صاحبا.
الفلاسفة والمفكرون الملاحدة والمؤمنون أيضا يعترفون بهذا. فالعقل يوصل إلى هذه النقطة. لديكارت مقولة مشهورة. لقد بدأ العمل من خلال الشكّ في كلّ شيء وتدمير كلّ شيء من أجل البناء من جديد.
قال: "يمكنني أن أشكّ في كلّ شيء. يمكنني أن أشك في المسيحية"
قبل السيد المسيح، بمن كان الناس سيؤمنون؟ عندما لم يكن هناك صليب ماذا كانوا سيعبدون؟ من خلال معتقداتهم لا يمكنهم أن يوضحوا مرحلة ما قبل السيد المسيح.
أي أنه محدود وغير كافٍ.
لقد شكّوا في كل شيء. طبعا، العلم أيضا يبدأ بالشك.
يقول أحد الشعراء: "الشكّ هو الهروب إلى الحقيقة"... عليكم أن تشكّوا حتى تبحثوا وتجدوا الحقيقة. تشكّون في كلّ شيء:
"هل الأشياء التي تدركها حواسّي حقيقية؟ أنظرُ حولي وأرى أشياء. هل هي انطباعي أنا الذاتي، أم هل هي بالفعل حقيقية في الخارج؟ وعندما أرى هل أرى الصواب، أم أنّني أدرك بعض المعلومات المحدودة بقدر ما تُريني عيني؟ عندما أسمع، هل أسمع كلّ شيء؟ أم أنني أسمع أشياء على قدر استيعاب أذني؟"
"هل أنّ الانطباعات التي تُشعرنا بها أعضاء حسِّنا هي نفسها المُدرَكات التي يدركها عقلنا، أم أنها مجموعة من الإنطباعات المُحوَّرة؟ ماهو الشيء الصحيح، وماهو الشيء الخطأ؟"
في مُحيط الشكوك هذا يصبح الإنسان مشارفا على الغرق. تشكون في كلّ شيء. تفكير شاكٌّ يُسمّى بـ"الشّكوكيّة"...
طبعا، من خلال كثرة الشكّ أثبت الإنسان صحة بعض الأمور ببعض التجارب. وبعضهم اعترف وقال:
"كلّ شيء نسبيّ"
كلّ شيء نسبة إلى شيء: هذا كبير بالنسبة لهذا، وهذا ثقيل بالنسبة لهذا، وهذا هكذا، وذاك كذلك: كلّها مُقارنةٌ ببعضها. وإذا لم توجد هذه المقارنة، لما وُجد الزمن ولا وُجد المكان. يُقال "بعد الحدث الفلاني وقبل الحدث الفلاني": الزمان نسبيّ، والمكان كذلك...
إذًا ظهرت نظريات كبيرة جدا.
ولكن ديكارت يقول: "أنا أفكر، وأعيش في داخلي هذه الشكوك: هل أنا موجود؟ ما أنا؟ من الذي يُفكّر داخلي؟ هل يُفكّر أصبعي، أم أذني، أم فَكّي، أم رجلي؟"
هذا الذي يفكّر في داخلي يسعى لإيجاد "أنا موجودةٍ فيَّ، في داخلي". وجدها يونس. ثمّ وجدها هو (ديكارت) أيضا، فقال:
"أنا أفكر، إذا أنا موجود".
يقول "لقد أمسكتُ شيئا، جيّد. ما دمتُ أُفكّر فإنّ بداخلي شيئا يُفكّر..." ومن هنا يبدأ.
"هل وجودي هذا من نفسي؟ هل أنا من أوجدتُ نفسي؟"
"لا، لا علم لي بذلك، أنا لم أفعل ذلك"
من فعل ذلك؟ يبدأ الإنسان في البحث عن ذلك. أنا موجود، إذا يوجدُ من أوجدني، يوجد نظام، يوجد قانون، توجد قوانين طبيعية...
أنا لا أخاف من الطبيعة ولا من قوانين الطبيعة أبدا، فهي تُعجبُني كثيرا، لأنها تدلُّ على وجود الله.
نقول "مادام هناك قانون ونظام: إذا فهناك مُنظِّم". العقل يقول ذلك، يقوله بشكل ضروري.
هناك بروفيسور من بين طلبتي أعدَّ رسالةَ لنيل درجة أستاذ مشارك عنوانها "محارات الإلحاد ومغاليقُه".
لا يمكن إنكار وجود الله. الإيمان بالله يُجيب على الأسئلة، ويحلّها. ويفسّر موضوع الرواية المعقّد. يكشف السّرّ ويحلّ كلّ شيء.
تقول "الله موجود" فينتظم كلّ شيء. وعندما تقول "لا وجود لله" يتعقّد كلّ شيء، ويحارُ الإنسان. إنّه يوضّح الحيرة يا صديق، ويُثبتُ تعذُّرَ اللّا إيمان.
كما أنّه أثبت ذلك أمام اللجنة الملحدة. رأى أعضاؤها أنّ الذي أمامهم أكثر علمًا مما يريدون، فلم يتمكّنوا حتى من الاعتراض. في حين أنّ الأستاذ المشارك الذي يدخُل الامتحان أقل قليلا من أعضاء اللجنة من حملة درجة بروفيسور. لكن هؤلاء وجدوا أنّ هناك الكثير من الأشياء التي لا يعرفونها. لقد دخلوا الإلحاد ولكنهم دخلوه لأنهم يمتلكون معلومات من طرف واحد. أمّا تلميذي فقد بدأ الأمر من الإمامة، من الإلهيات، ولأنه يعرف هذا الطرف أيضا اعترف له من هُم أمامه. لقد تحول الأساتذة أمامه إلى طلبة.
بعد ذلك أُعجِبت كثيرا بذلك النص وطلبت نشره في في مجلّتنا العلم والفنّ.
نشرتُه حتّى يعرفوا أنّ الطريق الذي يسيرون فيه مسدود، وأنّهم علميّا في طريق خاطئ، وأنّهم علميّا متعصّبون، وعميان، ومنحازون، ولكي يسمعوها من فم أستاذ مشارك، ولكي يروها في شكل رسالة علميّة أمامهم.[1]
النصّ الأصلي في مجلة كليتنا للإلهيات.
أنا أفكر إذاً أنا موجود. أنا موجود، إذا هناك من أوجدني. وإذا كان هناك من أوجدني وبَنَى هذا النظام في الكائنات، إذا كان خالق هذه الشمس وهذا القمر ومُفتّحُ هذه الأزهار وهذه الأشجار قد خلق هذه الحياة من هذه الجمادات غير الحية من الطبيعة، وإذا كانت هذه الحياة تسير نحو اتّجاهٍ ما، فإن هناك من يوجّهها، هذا واضح جدا...
هناك بروفيسور أورديناريوس (أستاذ كرسي) في الطب اسمه عقيل مختار أوزدن. ربما يعرفه بعض الأصدقاء الأطباء من خلال كُتبه. وهو رجل درس في سويسرا وحصل على نياشين وميداليات مختلفة.
ألّف كتابًا اسمُه الأخلاق من الناحية العلمية. لعلّكم قرأتموه. لأنّه كان هناك معهد لتاريخ الطب في كليّة طبّ إسطنبول كان يرأسُه بديع شهسوار أوغلو، وفي مرحلةٍ ما سهيل أنور، نُشر الكتاب هناك. لقد اقتنيت الكتاب من هناك.
هو بروفيسور أورديناريوس وهو شخص عاش في أوروبا. وفي كتابه هذا يعطي أمثلة من الحشرات والحيوانات ليُثبت أنّ السلوكيات التي نُسمّيها "أخلاق" جاءت كنتيجة لعمليّة تطوّرٍ، وأنّ الكائنات تتجّه بالتطوّر نحو نقطة محدّدة، وأنّ الكائنات تتطوّرُ وتظهرُ بفعلِ قوّة عاقلة. هذا هو الموضوع الأساسي للكتاب.
هو يذكُر بأنّ هناك قوّة ترتّب النظام وتقوم بالتدبير: يعني "مؤمن".
نحن الآن نعرف ذلك. الإنسان عندما يرى هذا من جهة علميّة يقول: "حسنا، أنا موجود، وهناك من أوجدني. الكائنات موجودة، وهناك من أوجدها. في الكائنات نظام، وهناك من أوجد هذا النظام، هناك من كوّنَ هذه العمليات..." ولكن هذا ليس مُشبِعا لنهم الإنسان. فالنّهم سيزداد، وسيكثُر الفضول والتّوق [إلى الحقيقة].
سترِد على الذهن العديد من الأسئلة من قبيل " أين هذا [المُوجِد]، وكيف يمكنني التواصل معه؟ ماهو بيان هذه المعلومة وما مدى اتساعها وما تفرّعاتها؟ إذا كان هو قد خلقني، فما طبيعة علاقتي به؟ ما الذي عليّ أن أفعلهُ تُجاهه، وما الذي يفعله هو تجاهي؟ ما الحياة؟ من أين جئنا وإلى أين نسير؟".
لذلك قال أحد الشعراء العرب:
"إذا وصلت إلى وجود خالقٍ بعد التفكير في العديد من الأسئلة فقد وصلت إلى السؤال الأكبر"
إن معرفة وجود الله، تجيب على العديد من الأسئلة وتكون منبعا للعديد من الأسئلة الأخرى.
الإنسان لا يمكن أن يدرك ذلك بعقله. لذلك يُرسل الله تعالى رُسلا مبلّغين لكي يُعرّفوا به ويُشبعوا النّهم المتعلّق بهذه المواضيع.
جميعكم تعرفون سورة الرحمن من القرآن الكريم. السورة التي نسمعُ فيها تكرارا لآية فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.[2]
يقول الله تعالى [في هذه السورة]: خَلَقَ الْاِنْسَانَۙ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.[3]
من هنا نفهم أن النظام الذي نسميه "تكلّم" هو نظام متطوّر جدّا. نحن نتكلّم، وأنا أبثُّ إليكم الأفكار التي في ذهني. أنا أبثّها من خلال التكلّم، نظام التكلّم، وأنتم تفهمون.
إذًا فهذا نظامُ بثٍّ للمعلومات معقّد جدّا... كيف تكوّن هذا، وكيف تطوّر: إنه شيء غامض...
خلق الله تعالى الإنسان: علّمه ما يبيّنُ به أفكاره من تشكيلات وأنظمة وآلات ووسائل.
ثمّ لمَّا انزوى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء وأخذ في التفكُّر والعبادة ماذا كان محتوى الآيات الأولى التي نزلت؟
اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْاَكْرَمُۙ . اَلَّذ۪ي عَلَّمَ بِالْقَلَمِۙ . عَلَّمَ الْاِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.[4]
أي أنّ الذي علّم الإنسان القلم والكتابة والبيان والفهم والعلم وكلّ ما لا يعلم هو الله أيضا. فنحن نكتسب جميع المعارف منه
هو، من لُطفه هو. درجة درجة على مرّ التاريخ، هكذا اكتسبناها على امتداد تاريخ الإنسانية: هذا ما يُفهم.
والله تعالى لم يترك الإنسان بعد ما خلقه. فهو بعد أن خلقنا لم يتركنا لمصائرنا مثل طفل رُمي في الشارع. فلُطفه مستمرّ في كل لحظة.
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ ف۪ي شَأْنٍۚ
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ ف۪ي شَأْنٍ.[5]
لُطفه مستمرّ في كل لحظة... نحن نفكّر بالعقل الذي منحنا إياه، ندرس به الماجستير والدكتوراه. نحن نعيش كلّ لحظة بالنِّعم التي منحها لنا.
والحياة التي في أجسامنا هي نتاجٌ للنِّعم المعقّدة التي أعطاها لنا. وعندما تتعطّل بعض الأشياء في هذا البناء المعقّد عن العمل نُصاب بالمرض. وعندما تتفاقم هذه العطالة نموت. نهاية الحياة والتنفس وكثير من النعم...
قيل للشيخ بهاء الدين النقشبندي: "أرِنَا الكرامة". تقدّم إلى الأمام خطوات ثلاث وقال: "هذه كرامة لكم".
التقدّم إلى الأمام بثلاث خطوات كرامة كبيرة، هي فضل من الله، ليست شيئا سهلا، لا تستطيعون [القيام بها من دون الله].
الناس يصنعون روبوتًا يمشي قليلا... فيبادرون بتصوير فلمٍ وأخذ صورٍ فنندهش قائلين: "ما شاء الله، ما شاء الله، لقد أوجدوا جهازا يسير هكذا". إنّ هذا الاتّزان لدى الإنسان أيضا مهم.
عندما كنا قادمين بالسفينة عرض التلفزيون في فترةٍ مَا تزلُّج المتزلّجين، وهبوطهم من الجبال، والتفافهم في الهواء، وطيرانهم وغير ذلك. تحدثنا مع أصدقائنا. الأطفال هنا يعتادون على هذا الاتزان من خلال [استعمال] أحذيةٍ بعجلات. وأطفالنا يُطيّرون طائرات ورقيّة، ويرمون بالمِقلاع، ويقفزون بالحبل، ويلعبون لعبة القفز على المربعات (الحجلة). أما هؤلاء فليسوا كذلك.
هذا الاتزان أيضا شيء مهم، شيء عظيم. ونحن نعيش حياتنا من خلال هذه الأشياء العظيمة كتقويةٍ لكلّ لحظة منها. ونحن ذوو امتيازات على بقية الموجودات.
قرأت في أحد الكتب أنّ طول النمر البنغالي ثلاثة أمتار، لا قابلنا الله به. النمر البنغالي أرَى ولدَه الإنسانَ من بعيد، وقال
له: "انظر، أرأيت هذا؟ هذا أخطر مخلوق في العالم، احذر منه ! ".
نحن أخطر مخلوق في العالم. الفِيَلة تضيق بنا ذرعا، والنمور تخاف منا: تُحذّر صغارها من الوقوع في شباكنا. جميع المخلوقات في البحار والهواء تحت تصرفنا: نحن أرقى منها.
نحن لم نكتسب هذا الرّقيّ بأنفسنا. هناك قوّة موجّهةٌ خارجنا هي التي منحنت هذا لنا، وبفضلها وصلنا إلى هذا المستوى.
الله تعالى يذكر في القرآن الكريم، يذكر الحقائق الكونية. نحن لم نُخلق سُدًى، ومُنِحنا امتيازاتٍ كبيرة جدا، وأُعطينا إمكانات كبيرة جدا. نحن ندرك ذلك ونراهُ، والأحداث أيضا تبيّنُه. وهذا يعني أن لنا وظائف ومسؤوليات تجاه خالقنا.
رجاءً اقرؤوا حكاية حياة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم –في أوقاتٍ بين أعمالكم الشاقة- مع نسائكم وأطفالكم.اقرؤوا كتابا جميلا عن كيفية بعثة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
أي كتاب هو الجميل؟
كتاب التاريخ الإسلامي لعاصم كوكسال الذي نال جائزة من المرحوم ضياء الحق كتابٌ جميل.
لمذا هو جميل؟
لأنه جَردَ جميع المصادر وأخرج المعلومات ونظّمها: قراءته للأسماء جميلة. لأنني أقرأ كتبا أخرى: كُتّابُها يمكن أن يكونوا غير قادرين حتى على تحديد الأسماء. والمتصدّون لهذا العمل لمجرّد إتقانهم لقليل من العربية لا ينجحون بشكل جيّد فيه. يجب أن يكون المرء متخصّصا متقنا.
اقرؤوا التاريخ الإسلامي لعاصم كوكسال. خذوا طبعته الأخيرة، وابدؤوا قراءته من أوله. أنا أقول هذا حتى يكون الكتاب عونا لكم على معرفة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
من المؤكّد وجوب قراءة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكّن إنسان القرن العشرين الذي أخذ معارف معاصرة من فهم كيفية بداية نبوّة النبي، وكيف ناضلَ وقاوَمَ رسول الله الذي أرسله الله لمُهمّةٍ محدّدة، وكيف وصلنا نحن إلى هذه النقطة. يجب أن يتولّد نضال سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم في دمائنا.
لقد درّستُ في كليّة الإلهيات بأنقرة لمدّة سبع وعشرين سنة. وقبل الذهاب إلى كليّة الإلهيات تربّيت في التكيّة منذ المرحلة الإبتدائية. تربّيت في محيط دينيّ، تربّيتُ في محيط دينيّ متين. تربّيت بين أُناسٍ يخافون الله، ويسعون إلى القيام بعباداتهم، ويحرصون على المسير في طريق الله، ويجتنبون الحرام. تربّيت في هكذا بيئة. تأثرت بكلمات مشايخ كبارٍ مباركين، واستمعت لوعظهم، ولنصائحهم، وسمعتُ الأحاديث الشرييفة والآيات الكريمة.
ثم بعد ذلك ارتميتُ في الحياة. عرفتُ الجامعة من خلال محيط كلية الإلهيات. لقد قضيت سبعا وعشرين سنة من عمري بين أُناسٍ من المفترض أنّهم أكثر معرفةً للإسلام قياسًا برجال علمٍ في أماكن أخرى.
هؤلاء يعرفون القرآن، والأحاديث، ولديهم معلومات حول الإسلام. المعرفة لا تكفي لجعل الإنسان إنسانا جيّدا. بلُغةٍ أخرى: الإنسان الذي يعرف الأمور الحسنة لا يفعلها أبدا. فمعرفة الحسن من الأمور شيءٌ وأن تكون إنسانًا جيّدا شيء آخر، كلاهما شيء مختلف عن الآخر. أن تنجح في أن تكون إنسانا جيدا يصبح ممكنا عندما تطبّق تلك المعارف، ليس الأمر سهلا. المعرفة لا تكفي.
يجب أن يتولّد الحُبّ من حياة سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه وفكره في دمائنا. وعلينا أن نتعلّم حياة سيّدنا النبي صلى الله عليه وسلم. لكن ذلك ليس ممكنا من خلال كتب المستشرقين الذين يكتبون "محمد...محمد" من دون صلى الله عليه وسلم. لأنّ الجاهل بالشيء لا يمكن أن يفسّره. يجب أن نقرأ من كتابٍ ألّفه شخص عارفٌ وقادر على الفهم.
لذلك أنا أوصي بكتاب عاصم كوكسال، لأنه كتاب علميّ، ولأنه كتاب عميق، ولأنه بحث في جميع المصادر بقدر جهده... ونحن يجب أن نتطعّم بشيء منه. لأنّ هناك بعض الناس صاروا صحابةً بسبب صداقتهم لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: لدى أولئك أيضا ذلك الحبّ.
إنّ لسيدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أعداء شرسون من بين أقاربه المقربين... هل تعرفون أن أبا لهب عمُّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم؟هل تعرفون أنّ أبا لهب أخُ عبد الله وابن عبد المطّلب؟
ثمّ جاء زمان بعد ذلك وصار فيه بعض أعدائه الشرسين ممّن كتب الله لهم الإسلام من المسلمين. ولهم مواقف بعد أن أسلموا. ينتصب شعر الإنسان شعرة شعرة. يطرأ على الإنسان تغيير في حياته فيحصل انقلاب كبير. يحصل تحوّلٌ وتغيير كبير. هذا ما يجب أن يُنال. لا يحصل شيء من مجرّد قراءة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من دون نيل ذلك التغيير وكأنك تشاهد فيديو أو تقرأ رواية. يجب أن يتولّد ذلك التغيير.
عندما يتولّد ذلك لدى أعداء الإسلام يصبحون أصدقاء له، ويصبحون مستعدين للتضحية بأرواحهم من أجل سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. الإيمان الحقيقي يكمن هناك...
إنّ حفظ القرآن أيضا لا يكفي يا إخوتي المحترمين، أنا أنبّهكم، انظروا:
التخرج من مدرسة الإمام خطيب لا يكفي، والتخرج من كلية الإلهيات لا يكفي. أنا أعرف أساتذة في الجامعة التقنية أكثر تديّنا وشوقا وحبّا من أساتذة كليّة الإلهيات. لا يكفي أن تكون أستاذا بكلية الإلهيات أو متخرجا من مدرسة الإمام خطيب، هناك أشياء أخرى ضرورية.
لا يكفي أن تكون حافظا، يجب أن يكون هناك حبّ، وإيمان، وقوّة إيمان. يجب أن نتضرّع لله طلبا لذلك. ومفتاح ذلك في حياة نبيّنا صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة الكرام.
لقد نشرنا إلى جانب مجلّاتنا كتابا اسمُه مشاهد من حياة الصحابة، اقرؤوه، فلتقرأ النساءُ قسمَ نساء صحابيات، وليقرأ الرجالُ القسم الآخر. لكي يتمّ الوصول إلى تلك الحالة من خلال الاقتداء والتأثر من أسلوب حياة شخص مؤمن....
تعرفون "الرنين" (Resonance )، عندما يحصل اهتزاز في مكان ما ينتقل إلى الطرف الآخر: حتى يحصل شيء كهذا يجب تعلّم حياة الصحابة الكرام.
الذين وصلوا إلى الإيمان الحقيقي والذين عرفوا الإسلام جيدا تتغير حياتهم عندما يتعرفون على الإسلام وتتغير أهدافهم في الحياة وتتغير أعمالهم وقوّتها وسرعتها. ونحن أيضا علينا أن نكون كذلك.
فلنفرض أنّ ذلك حصل، أريد أن أقول التالي:
عندما سلّطوا ضغوطات شديدة جدا على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع أرادوا فيه أذيته ووصلوا إلى حدّ محاولة قتله ومارسوا عليه ضغوطا شديدة جدا، وعندما طلب منه عمّه أن يتنازل عن دعوته، قال:
" لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته. ما تركته حتى لو جعلتموني ملكاً، أو أعطيتموني كنوزا، أو جعلتموني رئيسا، أو لبيتم جميع رغباتي. يا عمّ إذا كنت تقول لي هذا الكلام بقصد إخراجي من حمايتك منذ الآن، إذا كنتَ تقول: 'يا ولدي، يا ابن أخي، بسببك صارت لي مشاكل مع قريش، وعندما أعلن حمايتي لك فإنّني أتأذّى، فلتتنازل عن هذه الدعوة، وإذا لم تتنازل فإنني لن أقدر على حمايتك'، فإنني لن أتركه، والله يكفيني". وبكى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قام من عند أبي طالب وذهب. فناداه من خلفه:
" اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا".
كان إنسانا قويّا ومتنفّذا. لم يتمكتنوا من المساس بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته. لقد قام بحماية سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: " لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، لو صرت ملكاً، لو أُعطيتُ كنوزا، لو انتُخِبتُ رئيسا، حتى لو زوجوني بأجمل البنات وأشرفهنّ نسبا، لا أترك هذا الأمر".
لقد كابد المشاكل والمشقات وخوف الموت والجوع وأنواع الهموم ولم يترك دعوته. هذه هي دعوته...
حتى تفهمَ هذه الدعوة يجب أن تتولّد من هناك نارُكَ. ونحن أيضا علينا أن نعمل كذلك.
نحن في القرن العشرين، ونحن أيضا نسأل أنفسنا "ما الحياة؟". ونقول "من خلقنا ؟". ونقول "ما الهدف من الحياة؟". ونقول "من أين جئنا وأين نذهب؟". ونقول "ما الذي سنكونه بعد الموت؟".
وعلينا أيضا أن نعمل مثل النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل أبي بكر رضي الله عنه، ومثل علي رضي الله عنه، ومثل الصحابة الكرام.
وعليه فإن وجودكم في طريق العلم شيء جميل جدا. وأنا أصلا، عندما يستشيرني أصدقائي أقول لهم جميعا:
"ادخلوا طريق العلم، وترقوا في الطريق العلمية، وتقدموا، واسعوا إلى نيل درجة بروفيسور إن أمكن. لأنكم حينها ستعرفون الله بشكل أفضل وستفهمونه".
عمر نصوحي بلمان منتسبٌ لتكيّتنا. لقد ارتبط بمشايخنا القدماء، وهو من إخواننا الكبار. هو شخصٌ شغل منصب رئيس شؤون الديانة ومنصب مفتي إسطنبول.
في ترجمته للقرآن الكريم، عندما ترجم سورة العلق، ترجم آية خلق الإنسان من علق [6] بهذا الشكل: "خلق الإنسان من قطعة دمٍ جامد".
هكذا جاء [تفسيرها] منذ القدم، وهكذا تمُرّ. نظروا إلى المعجم، فقالوا العلق هو قطعة دمٍ جامد. لكن الإنسان لم يُخلق من قطعة دمٍ جامد...
هل يُخلق الإنسان من الدم؟
لا، لا علاقة له بالدم.
هل للخلق ولتكوّن الجنين علاقة بالدم؟
لا، الترجمة خاطئة.
ما العلق؟
تعلُّق، علاقة، أي "علاقة"، أي "التصاق". العرب يسمون العلقة علقةً لأنها تلتصق. والآن يقول الأطباء "جنين". لأنّهُ يعلقُ بجدار الرحم سُمّي "علقًا".
ذلك هو ما يُقصد بـ "خلق [الإنسان] من علق".
لكن لأنّه لا يعرف هذا أخطأ في الترجمة. لقد بيّنّا ذلك في نصٍّ لنا في بانزهير (Panzehir ). ثمّ صرتُ أنظر في الترجمات الجديدة اللاحقة وأفحصها، فإذا أغلبها صُحِّح.
انتهت "قطعة دمٍ جامد"، انقطع قولُ "خلق الإنسان من قطعة دمٍ جامد".
أريد أن أقول أنّ الإنسان إذا صار مثقفا، إذا صار عالما، فإنه يفهم آيات الله بشكل أفضل ويعبد الله بشكل أفضل.
* تمّ تفريغ هذا النص من مداخلة للمرحوم البروفيسور محمود أسعد جوشان في مدينة نيو كاسل بأنكلترا بتاريخ 28.08.1997.
[1] العلم والفن، ج 1، ص 64.
[2] 55/ الرحمن، 13.
[3] 55/ الرحمن، 3-4.
[4] 96/ العلق، 3-5.
[5] 55/ الرحمن، 29.[6] 96/ العلق، 2.