موعظة شعريّة: من وماذا يجب أن نحبّ؟*

أمّا الأجمل والأحسن فهو الذات الأقدس صاحب كلّ أنواع الجمال وخالقها وموجدها ومبدعها، أي الله تعالى. فكلّ شيء جميلٍ تراه العين وتحبُّه القلوب في هذه الدنيا هو من اختراعه وصنعه. وأما جماله الأكبر الحقيقي الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب أحد فقد خبّأهُ لعالم الآخرة. والإنسان سيُدركُ معنى الجمال عندما يُزيح ذو الجمال والكمال النقابَ عن جماله لعباده السُّعداء في الفردوس الأعلى وسيعرفه عندما يشاهد الجمال الأكمل و [يتذوق] لذة الكمال الحقيقي.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)

الحبّ هو أجمل المشاعر التي أُنعِم بها على الإنسان. فعالمنا الداخلي والخارجي يحيا ويكتسب ألوانا ويصبح له معنى بفضل الحبّ. أما المحرومون من هذه النعمة الإلهية فإن وجوههم عابسة وحواجبهم معقودة وقلوبهم مظلمة. وهذا الأمر يكسر ما حولهم، فهم يؤذون الجميع بألسنتهم وبأحوالهم. لذلك فإنّ عدم تطوير إحساس المحبّة وعدم معرفتها من أكبر الحرمان.

نحن نسعى إلى تناول أغذية جيّدة وقويّة من أجل بناء أجسامنا وتقويتها، ونشرب أشربة فتح الشهيّة ونتناول حبوب الفيتامينات لذلك. ومن أجل صحّة الجسم نبحث عن الشمس وعن الهواء النقيّ ونخرج للاستجمام ونقوم برياضات مختلفة. بنفس القدر –بل وأكثر- علينا أيضا أن نبحث عن سُبُلٍ لتطوير جوانبنا المعنوية وتقويتها وعلينا أن نجد لذلك دواءً ونستعمله، علينا فعل ذلك لأن هذا الأمر سيعطينا نتائج أهمّ بكثير من تقوية الجسم. أما بالنسبة لموضوع صحّة الروح وطمأنينتها وسكونها فإنّ أهمّ دواء وبلا شكّ هو "الحبّ". لذلك علينا أن نسعى كثيرا لتطوير شعور الحبّ لدينا وأن نبذل جهدا في سبيل ذلك. لأن سعادة الدنيا وسلامة الآخرة تُنالُ بنسبة كبيرة من خلال امتلاك هذا الشعور.

إنّ من اللازم إيقاظ ملكة الحبّ وتغذيتها وتطويرها من خلال المحبّات المشروعة والبريئة الناشئة منذ زمن الطفولة، مثل حبّ الأمّ والإخوة والألعاب والطيور والأزهار... تعليم الحبّ هذا يأتي في الأهمية قبل المعرفة والعلم ويعطي نتائج أكثر خيرًا. لأن العلم البحت لا يوقع إلا في الغرور وفي حبّ الذات. لذلك يقول فضولي:

كلّ ما في العالم عشقٌ

أما العلمُ فليس سوى قيل وقال[1].

ولأن نظام المعارف لم يُصمَّم وفق ذلك المبدأ، فإنّ شباب اليوم سيء المزاج وخشنٌ وقاسٍ ومؤذٍ. لأنهم لم يُمنَحوا في مكاتبنا (مدارسنا) المحبّة، بل مُنحوا مشاعر معوجّة ومشوّهة مثل العناد والعصيان والحقد والأنانية والعُجب والغرور. كما أنّهم لُقّنوا التّصارع والتّسكّع والتخريب والتمرّد والعداوة من السينما والراديو والتلفزيون والجرائد والمجلات.

هل كلّ أنواع المحبّة جديرة بالقبول؟ لا بلا شكّ. فلا يمكن لأحد أن يدّعي أنّ محبّة الخمر والقمار والعلاقات المحرّمة والمال والمنصب والكرسيّ والعُجب بالذات وما شابه ذلك من الميولات السقيمة أنها أمور جيّدة. وعليه فإن ذلك يعني أن شعور الحبّ أيضا يجب أن يُراقَب وأن يُصرف إلى الأشياء الجميلة والمشروعة. في هذه الحال يظهر أمامنا السؤال التالي: من وماذا يجب أن نحبّ يا تُرى؟

هناك نشيد شعبي يقول: "إذا كنت محبّا فلتُحبّ جميلا، ولا تتألّم بسبب قبيحٍ". إذًا علينا أن نبحث عن جميل وجيّد، علينا أن نجده ونحبّه.

أمّا الأجمل والأحسن فهو الذات الأقدس صاحب كلّ أنواع الجمال وخالقها وموجدها ومبدعها، أي الله تعالى. فكلّ شيء جميلٍ تراه العين وتحبُّه القلوب في هذه الدنيا هو من اختراعه وصنعه. وأما جماله الأكبر الحقيقي الذي لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب أحد فقد خبّأهُ لعالم الآخرة. والإنسان سيُدركُ معنى الجمال عندما يُزيح ذو الجمال والكمال النقابَ عن جماله لعباده السُّعداء في الفردوس الأعلى وسيعرفه عندما يشاهد الجمال الأكمل و [يتذوق] لذة الكمال الحقيقي.

فالقلوب الراقية سعيدة وهائمة بسبب الحلم بتلك اللحظة وبسبب جمال ذاته العليّة المتفرّد. المحبّة الأصليّة هي هذه. وجميع أنواع المحبّات الأخرى هي إمّا تمارين لتطوير شعور المحبّة وإمّا مرحلة من مراحل الطريق الموصلة إلى المحبّة الأصليّة. وكبار المتصوّفة يقولون عن المحبّة الأصليّة "عشق حقيقي" وعن الميولات البشرية "عشق مجازي". إن هذا العشق الإلهي هو الذي جعل من يونس أمره أكبر شاعر في آدابنا. وحماسة مولانا جلال الدين مصدرها هذه المحبّة. أمّا فضولي فقد وصل إلى مرتبةٍ بسبب هذا الجنس من المحبّة، لذلك قال:

أنا معجب بمرض العشق أيها الطبيب، فتوقّف عن محاولة علاجي

لا تُداوني فإنّ سُمَّ هلاكي يكمُن في علاجي[2].

وأشرف أوغلو قال بنفس السبب:

حُبُّك ديني وإيماني

إلهي، لا تُبعدني عن الدين والإيمان[3].

يا لسعادة من تمكن من الوصول إلى هذا الحبّ الحقيقي ومن تمكن من العثور على المحبوب الأصليّ.

أيها القارئ الحبيب، ابحث أنت أيضا عن هذه المحبّة وجِدها. لأن الطُّرُق الموصِلة إلى الله بعدد أنفاس المخلوقات. وأقصر هذه الطرق هي طريق المحبّة والعشق ومحبّة الله.

إذا شربت من هذا الماء يا صديقي، فلن تظمأ بعدها أبدا...

ستصل إلى حالٍ... لا تبكي معها ولا تظمأ[4].

يقول إبراهيم حقي أرض الرومي:

يا لسعادتي بأن كُنتَ أنت محبوبي،

لقد كُنتَ أنيسي ومؤنسي وحبيبي.

أنت دواءُ قلبي المليئ بالآلام،

وأنت المشفى الذي يشفي روحي.

لا أبالي إذا عاداني كلّ الناس...

أيّ خوف ما دُمتَ أنت حافظي.

إذا أحسّت روحي بصفاء أو بجفاء،

فقد كنت أنتَ رفيقَ جميعِ أطواري.

إذا كنتُ عشقتُكَ يا روح العالم،

فهذا لأنك منذ الأزل بلسمُ قلبي.

سواءً قلتُ اسمَك الشريف أو لم أقُله،

فقد كُنتَ أنت جميع الكلام على لساني.

الألسُن المعظِّمة للحقّ

تقول لك: لا أنكرُ فقد صرتَ أنت إقراري[5].


[1] Karahan, Fuzûlî, s. 300

* Başmakaleler 4: İslâm Dergisi Başmakaleleri, İstanbul: Server İletişim, 2016, s. 159-162. المقالات الرئيسية 4، مقالات مجلة الإسلام الرئيسية، إسطنبول: سرور للتواصل، 2016، ص 159-162.

[2] Fuzûlî Divanı Şerhi, I, 304. شرح ديوان الفضولي، ج 1، ص 304.

[3] Eşrefoğlu Rûmî Dîvânı, s. 374. ديوان أشرف أوغلو الرومي، ص 374.

[4] Arif Nihat Asya, Bütün Eserleri Şiirler: 1, s. 218. عارف نهاد آسيا، جميع مؤلفاته الشعرية: 1، ص 218.

[5] إبراهيم حقي أرض الرومي، ديوان، ص 342.

مقالة “Bir Öğüt-Bir Şiir: Neyi, Kimi Sevmeli?*” Prof. Dr. M. Es'ad Coşan (Rh.a.)