أهمية العدالة *

إنّ تجاوز الإنسان لنفسه وإصداره لقرارٍ ضدّها أمرٌ لم يُرى في ثقافة أخرى. فإدانة القاضي لنفسه شيءٌ لا يمكن وقوعه في ثقافة أخرى. سواءً كان ذلك عليكُم أو على آبائكم وأمهاتكم. أنْ يكون هناك قاضٍ أو رجلُ عدلٍ تنفيذيٌّ يُدينُ أمّه وأباه ويُدين أقرباءه، هذا شرفٌ خاصٌّ بنا وبثقافتنا، وشرفٌ يمكن رؤيتهُ في ثقافتنا.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور محمود أسعد جوشان رحمه الله

أنا أرى أن مجال القانون مجال مهمّ جدا. لقد أوصلتني عقيدتي إلى هذه القناعة بسبب ثقافتي الدينية. فقد قيل عندنا بأنّ "العدل أساس الملك". المُلك يعني أن تكون مالكا، أن تكون صاحبَ حُكمِ في مجتمعٍ ما. أساس السلطة والحُكم هو العدل، هكذا يقول دينُنا. وهناك آية كريمة توصي المسلمين خاصّةً بعدم ترك العدل ولو على أنفسهم وعلى أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم.

إنّ تجاوز الإنسان لنفسه وإصداره لقرارٍ ضدّها أمرٌ لم يُرى في ثقافة أخرى. فإدانة القاضي لنفسه شيءٌ لا يمكن وقوعه في ثقافة أخرى. سواءً كان ذلك عليكُم أو على آبائكم وأمهاتكم. أنْ يكون هناك قاضٍ أو رجلُ عدلٍ تنفيذيٌّ يُدينُ أمّه وأباه ويُدين أقرباءه، هذا شرفٌ خاصٌّ بنا وبثقافتنا، وشرفٌ يمكن رؤيتهُ في ثقافتنا.

نحن نعرف أن القاضي خضر جلبي قد أدان السلطان محمد الفاتح. فقد تقاضى فاتح إسطنبول السلطان محمد الفاتح ومعماريٌّ روميّ من الأهالي الذين كانوا أصحاب إسطنبول ثم انغلبوا، فأدان القاضي السلطانَ محمد الفاتح جُعِل مثواه الجنة. فهل عاش بالفعل رجال قانونٍ أصيلين إلى هذا الحدّ ومُصدرين لقرارات شجاعة بهذا القدر، وبإمكانهم إدانة حاكمٍ يحبُّونه ويوالونه؟ إذا كانوا قد عاشوا فربّما كانوا أُناسًا حصلوا على فيوضاتٍ من دينٍ إلهيٍّ وكانوا يعلمون بأنهم سيُحاسبون أمام الله، لا يمكن أن يكون إلا هكذا. إذا كان هناك احتمال وإذا حصل هذا فإنه يكون قد صَدرَ من أُناسٍ مؤمنين بالآخرة وبالمحكمة الكبرى في الآخرة وموقنين بأنهم سيقفون أمام الله مالك يوم الدين.

إنّ ديننا يُشيرُ –كما هو مُشاهدٌ بوضوح- إلى أنّ " العدل أساس حياة المجتمع"، ويُعطي نماذج خالدة –بدءا من حياة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم- لرعاية الحقوق والتسليم للحق وإن كان صاحب الحقّ عدوّا.

أثناء فتح مكة المكرمة كان مفتاح الكعبة المشرفة عند عائلةٍ ولم ترغب تلك العائلة في تسليمه. وعندما قيل: "لن أعطيه لأحد، أنا لا أؤمن بنبوّتك" استخدمَ سيدنا عليّ القوة وأخذ المفتاح ثم فتحوا باب الكعبة وصلّوا. على إثر ذلك نزلت آية. وقد كان عمّ سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يُكرموه بوظيفة حمل مفتاح الكعبة فتكون عنده. عندما أراد أن تنتقل هذه الوظيفة إلى عائلته نزلت آية كريمة. نزلت آية: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. فقال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عليّ "خذ هذا المفتاح وأعِده إلى ذلك الرجل الذي لم يرغب في تسليمه فأخذتهُ أنت من يده بالقوة والتجبّر" وحكم بذلك. لم يُعطِ المفتاح لعمّه. وعندما رأى الرجُل المفتاح أمامه من جديد اندهش وقال: خيرا، ما هذا؟ [قال سيدنا عليّ:] بما أنك تظلم كثيرا ولا تعترف بنبوّة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه نبيّ فلم ألقِ لك أي اعتبار. وبما أنني الغالبُ حيث فتحتُ مكّة فقد انتزعتُ المفتاح من يدك –وهذه هي حقوق الغالب الطبيعية تقريبا حتى بين الدّول- ولكن الآن بما أنّ هذا الأمر حقٌّ لهذه العائلة منذ القِدم فقد أمرَ الله بأن يُعطى الحق لصاحبه، لذلك ها أنا أُعطيك المفتاح. وعندما قال ذلك، فهم الرجل أن هذا الدين العادل -الذي يُظهرُ مستوى من الأخلاق تجعل صاحبها يقوم بكلّ ما أمر الله به وإن كان ذلك ضدّه فيقبل بذلك ويعتذر ويعود- هو دينٌ حقّ. فآمن بسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وصار في صفّ المسلمين.

عندما كانت جيوش الفتح خلال مسيرها إلى الفتوحات تتقدّم في الأراضي الرومية، كانت إذا اقتطفت في طريقها عنبًا من كروم الأهالي الهاربين تُعلِّقُ أثمانها على الأغصان وتعطي الحق لأصحابه. وقد وجدت ثواب ذلك مدّة بقائها على ذلك.

يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّا لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه، ونولّيه من نريد". يأتي أحدهم يطلب إمارة فيقول له: "نحن لا نولّي من يسأل بل نولّي من نريد". عندما تهتزّ العدالة ويُصبح التعيين في الوظائف بالوساطات، حينها يبدأ المجتمع في التردّي والانهيار. يعني ذلك أنّ نجاح النّاس والمجتمعات ورقيّهم ونيلهم للقبول عند الله ووصولهم إلى لطف الله ونيلهم لثوابه وتأييده، كلّ ذلك يكون مع العدل. وفقدان الإنسان لتوفيق الله وتعرّضه للبلاءات وتمرّغ أنفه بالتراب يكون بسبب غياب العدل. وعليه فإنني أرجوا أن تراقبوا مرضاة الله دائما طيلة حياتكم وأن تفكّروا قبل إصدار أيّ حكم في ما إذا كان ذلك الحكم يرضي الله أم لا. وأرجوا أن لا تفارقوا الحقّ وإن كان ذلك على حسابكم وعلى حساب حياتكم.

أنتم تدرسون قانونا علمانيا في تركيا. ومولانا جلال الدين الرومي يقول: "ما دمتَ قد قرأتَ فلسفة اليونان إقرأ فلسفة الإسلام أيضا، إقرأ فلسفة الإيمان أيضا". وهو يريد أن يقول: "ما دمت قد قرأت أرسطو وأفلاطون وغيرهم وحسبتهم رجالا فاقرأ أهل الإيمان أيضا ولا تكن منحازا". هذا يعني أن عليكم تعلّم القانون الإسلامي بسبب مجالكم. والقانون الإسلامي مع الأسف يُعامل في تركيا معاملة الابن الرّبيب.

القانون الإسلامي قانونٌ عظيم. هو نظام قانوني مستقلّ وجدير بالبحث. فحتّى في الغرب لهُ كراسي أكاديمية ولكن في تركيا مُحِيَ بشكل خاصّ وأُلغي. لذلك فإن عليكم أن تدرسوا القانون الإسلامي أيضا بشكل وثيق جدا. عليكم أن تتعلّموا جيّدا مبادئ القانون والمبادئ الأساسية للقانون الإسلامي. عليكم أن تتعلّموا أدبيّاته واصطلاحاته. فمثلما تعلّمتم الكثير من الكلمات اللاتينية ومثلما دُرِّستُم القانون الروماني كدرسٍ إجباريّ وحفظتم كلماته ومثلما أصبحتم تعرفون اللاتينية مثل بعض الإيطاليين، فعليكم أن تتعلموا وتعملوا بحبٍّ للقانون الإسلامي أكثر من ذلك.

يقول بروفيسور أمريكي: أنا أوصيكم بدراسة الدُّهاة العظام الذين نشؤوا من ثقافتكم. يقول: لقد نشأ أذكياءٌ متفردون ومدهشون، أوصيكم بأن تتعرّفوا عليهم وتقرؤوا لهم وتدرسوهم. وعن نفسه يقول: "أنا حاليّا أقرأ للإمام الشاطبي". لا أعرف إذا كان من بينكم من يعرف الإمام الشاطبي؟ لقد نُشر الآن كتابٌ له اسمُه الموافقات. هو عالم كبير نشأ في الأندلس، يُعطي معلومات حول أصول القانون وهو شخصية أصيلة جدّا. إذًا فهُم لم يعلّموكم القانون الإسلامي وعليكم أنتم أن تتعلموه. لقد شوّهوه، وعليكم أن تبحثوا عن جماله المتألّق خلف غيوم التشويه والتّسويد تلك حتى تجدوه، وعليكم أن تفهموا تلك المبادئ وتستوعبوها.


*عن محاضرة للمرحوم البروفيسور محمود أسعد جوشان موجّهة لطلبة القانون بتاريخ 19.06.1992.

مقالة “Adaletin Önemi*” Prof. Dr. M. Es'ad Coşan (Rh.a.)