التربية والتعليم في الإسلام*

يدعو الإسلامُ إلى تحمُّل كل المصاعب في سبيل التعلم، ويُرغِّبُ في السفر لطلب العلم ولو كان في الصين، لذلك يحفظ لنا التاريخ أمثلة كثيرة عن محبّين للعلم تركوا ديارهم طمعاً في العلم، وجابُوا أمصاراً كثيرة جمعاً وتحصيلاً؛ لأن العلم كما يُروى ضالَّةُ المؤمنِ، يغدو في طلبه، فإذا أصاب منه شيئاً حَواه.

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور الدكتور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)

لقد مرّت جميع الأجيال منذ العصور القديمة إلى الآن بعد أن تركت أموالها وأملاكها ومتاعها، وكلَّ ثرواتها التي جمعَتْها طوالَ أعمارها ميراثاً للأجيال التي تلَتْها، كلُّ ذلك متاع مادي، ومن الأكيد أن القدماء قد تركوا للأجيال اللاحقة أشياء أكثر أهمية إلى جانب هذا الميراث المادي، من بينها الأدب والتجربة والعلم واللغة والآداب والعرف والعادات والحقوق وغيرها من المعاني الثقافية والاجتماعية.

ويمكنُ القولُ بأنَّ هذا الميراثَ المعنويَّ أكثر أهميةً من النوع الأول من الميراث؛ لأن الرصيد المعنويَّ الذي يُخرج المجتمعَ من حالة التِّيه واللاّمرجعية، ويرفعُه إلى حالةٍ من الأصالة والتحضُّر هو مُستند ضروري للنجاح والتقدم، وهو مصدر عظيم من مصادر القوة.

وبالتالي فإنَّ اكتساب الأجيال الجديدة لهذا الميراث المعنوي شرطٌ أساسيٌّ لتقدُّم المجتمع ورُقيِّه، حيثُ تتعلم تلك الأجيال من المحاولات والهفَوات والنجاحات السابقة، وتنضجُ تحت ضوئها لتحسن الاستعداد للمستقبل.

غير أننا نعيش اليومَ في عالم كثير الحركة، ومستمرٍّ في الاتساع والتغيُّر بلا توقُّف، وهو ما يؤدِّي إلى اتساع المعارف والخبرات بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء، ويجعل المعارفَ والمناهج والتقنيَّاتِ في جميع المجالات تتطور باستمرارٍ يوماً بعد يوم.

لذلك لا نستطيع أن نقفَ مكتوفي الأيدي أمام هذا التغيُّر والتقدُّم المتسارع، وإذا فعلنا ذلك فهذا يعني أننا راضون بتأخُّرنا عن الرَّكْب.

هناك أستاذ جامعي تحدَّث عن حجم الإنفاق الحكومي على التعليم في عدة دُول في مؤلَّفٍ قيِّم له تناول فيه موضوعَ الخطوات والتحرُّكات الضرورية لتحقيق النهضة، فاتضح من خلال تلك الدراسة أن تلك الدول ترصد للتعليم ميزانيات تعادل الميزانيات التي تنفقها على الدفاع القومي، كما تقوم تلك الدول برصد مبالغَ كبيرة أيضاً لمجال البحث العلمي، وتبيّن أيضاً من خلال تلك الدراسة أنَّ الاستثمار في تلك المجالات يحقِّق لتلك الدول أعلى نسبة من الأرباح، وقد حصل ذلك بالفعل، فخلال خمس وعشرين سنة حققت أمريكا ربحاً بقيمة تتراوح بين 2500 و5000 دولار مقابل كل 100 دولار أنفقتها على البحث العلمي.

إذًا فنحن بحاجة ماسَّة للتعليم والتربية والعلم من أجل تحقيق النهضة والرّقيّ. لذلك سيكون من المفيد أن نتوقَّفَ مليّاً عند كمِّ ونوع هذا التعليم الذي يمثل أهميَّةً بالغةً للفرد والمجتمع.

وكما هو معلوم فإنَّ التعليم يعني إعطاء معلومة ضرورية جديدة للفرد أو للمجتمع، فخطاب التعليم خطاب للعقل والذاكرة فقط، أما التربية فهي مرحلة أخرى مختلفة عن التعليم وأكثرُ تقدُّماً منه؛ لأن المعلومة أو الموضوعَ المراد تعليمُه يهدف إلى إثارة اهتمام المُخاطَبين وجعلهم يستوعبونه كما يسعى إلى أن يصبح مصدراً وأساساً لأحكامهم وتصرُّفاتهم.

فالتربيةُ باعتبار هذا الوصفِ يعودُ نَفْعُها على الوعي واللاوعي، وعلى القلب والروح معاً، كما تسعى إلى إكساب المُخاطَبين نُضجاً وقدرة على التعبير.

التعليم والتربية معنيان متداخلان، ويرتبط كلٌّ منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً، بل يُكمِّل كلٌّ منهما الآخر.

فالتعليمُ الجيِّد يكسبُ المتعلِّمين معلوماتٍ موثوقة وضرورية، ويُعرّفهم بالمحيط الذي يعيشون فيه، ويُوسّع ثقافتَهم، ويجعلهم مُطَّلعين على مناهجَ وأساليبَ عالية في كل موضوع من المواضيع.

أما فيما يتعلَّق باكتشاف وتنمية المواهب والقدرات واكتساب المهارات إلى جانب إبعاد الأفراد عن السلبية، والتوجهات المُهلكة، وتوجيههم إلى ما ينفعهم وينفع مجتمعهم وبيئتهم، وجعلهم معطائين وإيجابيين مادياً ومعنوياً، فهذه كلها لا يمكن الوصولُ إليها إلا من خلال التربية.

تشمل التربية مواضيعَ شتَّى من بينها: الجسد والنفس، العائلة والمدرسة، الأخلاق والدين، العمل، الحرفة والفن، السياسة والمجتمع وغيرها، وكلُّ مجال من هذه المجالات له ضرورته وأهميَّته الخاصة.

وكُلَّما أُهمِلَت تربيةُ الفرد والمجتمع على مثل هذه المواضيع بقِيَا في مراتبَ متأخِّرة وبدائية، لذلك قال أحد الفلاسفة الغربيين بأن "الإنسان لا يصبح إنساناً إلا بالتربية"([1]).

ويؤكِّد غيره على أهمية وتأثير التربية بقوله: "أزعمُ أنَّ من بين كل عشرة أشخاص نقابلهم هناك تسعة منهم اكتسبوا من خلال التربية ما نراه فيهم من صفات جيدة أو سيئة، ومفيدة للمجتمع أو مضرَّة به"([2]).

وعلى غرار ما قاله أحد الفيزيائيين المعروفين القدامى: "لو وجدت نقطة ارتكاز لرفعت الأرض"([3])، قال فيلسوف غربي الكلمات التالية عن التربية : "مَن يملك التربية يملك الدنيا، أعطوني قوامة على التربية، وسأغيِّر لكم وجهَ العالم كلِّه في قرن واحد"([4]).

كل ما قيل سابقاً هو عبارة عن وثائق تظهر لنا الدور المحوري للتربية والتعليم في حياة كل أمة من الأمم، لذلك شهدت التربية والتعليم اهتماماً متفاوتاً من قبل المجتمعات في مناطق مختلفة على مدار التاريخ.

وإذا أجرينا استقراءً تاريخياً دقيقاً لتاريخ التربية والثقافة سنجد بأن الإسلام الحقيقي يأتي في الطليعة من حيث اهتمامُه بهذا الجانب، فالدين الإسلامي أعطى أهمية بالغة للتربية والتعليم، بل أوصلهما إلى مرتبة العبادة، وما التطور الهائل الذي شهدته العلوم إلى جانب ازدهار الثقافة والحضارة الإسلامية في عصور الإسلام الأولى إلا دليل واضح على هذه الأهمية البالغة.

والآن فلنتوقف قليلاً مع بعض الأمثلة عن القيمة التي خصَّ بها الإسلامُ ميدان التربية والتعليم.

من المعلوم أن الحالة الثقافية للمجتمع العربي قبل مجيء الإسلام كانت متخلِّفةً إلى حدٍّ بعيد، فبالرغم من أنَّ مدينةً كمكَّة كانت تعتبر متقدمة من حيث التجارة والدين والعلاقات الاجتماعية، إلا أن عدد من يتقنون القراءة والكتابة بها لم يكن يتجاوز الخمسة عشر، أو العشرين نفراً.

وفي السنة السادسة للهجرة عندما أرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل المنطقة المعروفة باسم جواثا بدعوة الإسلام لم يجد أهلُها مَن يقرأ لهم الرسالة، فبقيت مدة طويلة دون أن يفهموا فَحْواها.

وفي الفترة نفسها لم يجد الشاعر المعروف النَّمِر بن تَوْلَب مَن يقرأ له رسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فاضطُرَّ إلى البحث عمَّن يقرؤها له في سوق المدينة، هذا وهو رجل اختاره قومه ليكون سيداً عليهم في اليمن التي تعتبر مركزاً من المراكز الثقافية القديمة.

هكذا إذاً ولد الإسلام في بيئة ثقافية كهذه، وهذه نقطة مهمة يجب أن نضعها أمام أعيننا؛ لكي ندركَ حجم الازدهار الكبير الذي حصل بعد ذلك.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّاً، حيث تبيّن الآية (48) من سورة العنكبوت أنه لم يقرأ كتاباً من قبلُ، وأنه لم يعرف الكتابة أبداً، فلو كان يقرأ ويكتب لارتاب المبطلون في كونه فعلاً رسولاً من عند الله، وفي كون هذا القرآن المحكَم والمعجز قد نزل إليه من عند الله فعلاً.

يعني أن أصل عظَمتِه تكمنُ في نجاحه في الإتيان بأمر لا مثيلَ له مع كونه أمياً لا يقرأ، ولا يكتب.

بدأ نزول الوحي أول مرة على هذا النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم في غار حراء بصيغة الأمر: ﴿اقرَأْ﴾، ثم استرسل في الإشارة إلى أهمية العلم والقلم والكتابة.

ومن خلال ضرورة تدوين الآيات القرآنية التي نزلت بهذا الأمر والإشارات بدأت أولى الحركات الثقافية للإسلام، كما يُلاحظ أن أعمال القراءة والكتابة والحفظ والتعليم والتعلُّم والتربية قد ازدهرت بشكل سريع بعد ذلك مباشرة.

لقد اضطُرَّ المسلمون إلى الهجرة من مكة إلى المدينة بسبب الضغوطات والمضايقات التي عرضهم لها أهل مكة حيث تم إنشاء المسجد النبوي بها، وجُعِلَت زاوية من ذلك المسجد مركزاً لتعليم القرآن والفقه والحديث والعقيدة.

وكان عدد من يقيمون ليلاً بالمسجد حوالي سبعين أو ثمانين صحابياً يزداد عددهم خلال ساعات النهار؛ ليصلَ إلى حوالي أربع مئة صحابي، ويطلق على هذه المجموعة اسم "أهل الصُّفَّة"، أو "أصحاب الصفة".

كان من بين المدرسين في هذا المركز البديع عبد الله بن سعيد بن العاص الذي اشتُهر بالكتابة حتى قبل الإسلام، حيث كان يُعلّم الصحابة القراءة والكتابة.

كما كان من بينهم عبادة بن الصامت الذي كان يُعلّم القرآن والكتابة.

بالإضافة إلى عدد آخر من الصحابة تذكر المصادر أنهم تولَّوا أيضاً التدريس بهذا المركز من أمثال عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب.

وكثيراً ما شوهد أهل الصُّفَّة الذين جاؤوا من مناطقَ مختلفة، وتفاوتت أعمارهم وهم يدرسون في بعض الليالي إلى الصباح.

يُروى أن عدد المساجد بالمدينة وصل مع الوقت إلى ثمانية أو تسعة مساجد، كما أن بعض الصحابة من أمثال عبد الله بن مسعود ومخرمة بن نوفل حوَّلوا بيوتهم إلى مراكزَ للتعليم والإقامة باتت تعرف باسم "دور القرّاء".

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث له : "من جاء مسجدي هذا لم يأتِه إلا لخيرٍ يتعلَّمُه أو يُعلِّمُه فهو بمنزلةِ المجاهدِ في سبيل الله"([5]).

هذا الحديثُ وغيره من الأحاديث النبوية ظهر أثرها بسرعة على المعلمين والمتعلمين فتحوّل المسجد النبوي في زمن قصير إلى مَهْد للعلم.

لقد كان حبيبُنا محمد صلى الله عليه وسلم يحبُّ أهلَ الصُّفَّة ويحميهم ويرعاهم، كما كان يكثر الجلوس معهم، ويحادثهم ويحرص على تعليمهم، وكان كثيراً ما يدعو محبِّي العلم المعدَمين هؤلاء إلى طعامه، أو يشير إلى بعض الميسورين من الصحابة بأن يسدَّ احتياجاتِهم المادية، كما أنه كان يجعل من تعليمهم وتربيتهم أولويَّة الأولويات.

وفي هذا الإطار من المهم أن نشير إلى هذه الحادثة:

جاءت فاطمةُ بنت النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمها عليٌّ صهرُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأحدُ السابقين في الإسلام ذاتَ يوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوان إليه مشقَّة العمل، وأثره على أيديهما، ويسألانه خادماً من السَّبْي الذي جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، فكان ردُّ النبي r الإنسان القدوة عجيباً حيث قال: "والله لا أُعطيكما وأدَعُ أهلَ الصُّفَّة تطوِي بطونُهم لا أجدُ ما أنفق عليهم، ولكني أبيعُهم وأنفقُ عليهم أثمانَهم"([6]).

وهذا مثال آخر يظهر الاستثمار في الأسرى لغرض التعليم:

على إثر غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة وقع بعض المشركين أسرى في أيدي المسلمين، فتمَّ إطلاق أغنيائهم مقابلَ فِديةٍ تتراوح بين الألفين والأربعة آلاف درهم، وتم إطلاق سراح فقرائهم، واشترطوا على مَن يعرف القراءة والكتابة منهم أن يعلِّمَ عشرةً من أولاد الأنصار مقابلَ إطلاق سراحه، حتى إنَّ بعض المصادر تذكرُ أنَّ زيد بن ثابت أحدَ أعضاء لجنة جمع القرآن كان ممن تعلَّموا القراءة والكتابة على يد أسرى بدر.

تحضُّ آيات القرآن المنزَّل النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الدّعاء بزيادة العلم: ﴿وقل رب زدني علما﴾([7])، كما تبيِّن بأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون عند الله.

وكثيراً ما يحفِّزُ القرآنُ على العلم والتعلُّم من خلال التأكيد على أن العلماء من المسلمين أشدُّ عبادةً لله، وأنَّ الله يُعلي مراتبَهم، كما أن الآيتين (104) و(110) من سورة آل عمران تبرزان الوظيفة الإرشادية التي حمّلها الله تعالى للأمة المحمدية: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ (104) ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون﴾ (110).

لذلك وجب على المسلمين أن يُهيِّؤوا علماء يتولَّون إرشاد الناس، وهذا هو السبب وراء حضِّ النّبي صلى الله عليه وسلم على العلم وحرصه على التربية والتعليم.

خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم من بعض حُجَره، فدخل المسجدَ فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون، وإنما بُعِثْت معلِّماً"، فجلس معهم([8]).

وإذا ما دقَّقْنا النظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بوصفها كُلًّا متكاملاً سنجد أن كلَّ مسلم رجلًا كان أو امرأة مأمور بتحصيل العلم، وأن درجة أهمية هذا الأمر فُسّرت على أنها فريضة.

والفريضة في الاصطلاح: هي "كلُّ مأمور به شرعاً على وجه الإلزام"، وعليه فكما أن الصلاة والصوم والزكاة والحج فروض يجب على المسلم آداؤها فتعلّم العلم أيضاً فرض واجب عليه.

وليس من الصعب فهمُ الغاية من وراء ذلك، فبدون العلم لا يمكن استيعاب مواضيع الإيمان، ولا حتى أداء العبادات التي ذكرناها على وجهها الصحيح.

لقد كانت سياسة التعليم النبوية تستهدف النساء بقدر ما تستهدف الرجال، حيث كان يخصّص يوماً في الأسبوع لتربية وتعليم النساء.

وقد تعلمت زوجته حفصة الكتابة على يد قريبة لها اسمها الشفاء بنت عبد الله بعد أن حضَّها النبيُّ، وأذِنَ لها في ذلك.

أمَّا زوجته الشابة عائشة فقد صارت تُعدّ في طليعة علماء الصحابة الكرام، حتى إن عروة بن الزبير كان يقول: "لم أرَ أعلَمَ من عائشةَ بالفقه والتاريخ والشعر والأدب والطبِّ"([9]).

وعائشة تُعَدُّ من المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن كثيراً من الصحابة كانوا يأتون إليها ليستشيروها ويسألوها عن المسائل الفقهية.

قيل لمسروق: هل كانت عائشةُ تُحسن الفرائض؟ فقال: والله، لقد رأيتُ كبارَ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يَسألونها عن الفرائض([10]).

وبالنظر إلى حال المرأة في ذلك العصر عند بقية الأمم نجد أن موضوع تعليم المرأة فكرة متقدمة جداً، حتى إن كثيراً من البحّاثة الغربيين يقرُّون بحقيقة أن اعتراف الإسلام بحقوق المرأة وحريَّاتها كان سابقةً في ذلك العصر.

ومن الأمثلة على تلك الحقوق يمكن أن نذكر: قيام المرأة بأعمال التجارة، التملك، وكسب المال، والتصرف فيه بحريَّة، وحصولها على الميراث، وحقها في إبرام جميع أنواع العقود.

وموضوع العلم في الإسلام لا يشمل العلوم الدينية فقط، بل إنه يأمر ويوصي بالاشتغال بجميع فروع العلوم والمعارف، كما يدعو المسلمين إلى التدبُّر في خلق السماوات والأرض والنجوم، واختلاف الليل والنهار، والريح والمطر، واخضرار النبات ثم اصفراره، وخلق الإنسان خلقاً من بعد خلق.

ويندب إلى إعداد العدة اللازمة للجيوش، فيوصي بتعليم الأطفال ركوبَ الخيل، والرمايةَ، والسِّباحة.

ويدعو إلى العمل، وإتقان الحِرَف، إنها معادلة عبقرية بين العمل للدنيا وكأنك لا تموت أبداً، وبين العمل للآخرة وكأن الموتَ ملاقيكَ غداً، ويقال : "مَن أراد عزَّ الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد عزَّ الآخرة فعليه بالعلم، وليعلم أن الآخرة لا تُنال إلا بالعلم".

ويُذكر في الفقه بأنَّ تعلُّم بعض العلوم الضرورية للمسلمين في معاشهم أو التي تفيدُ في خدمتهم وحمايتهم هو بمنزلة فرض الكفاية، وهذا يعني أن غياب علم ضروريٍّ ما مثل الطبِّ أو الرياضيات في أحد المجتمعات المسلمة يُحمّل ذلك المجتمعَ بأكمله مسؤولية معنوية عن ذلك الإهمال، ويجعلُ منهم مذنبين، لذلك يجب على المسلمين شرعاً أن يشتغلوا بجميع العلوم، وأن يتوزع أفرادهم بين تلك العلوم بشكل مدروس.

بناءً على هذا الفهم أوصى الخليفة عمرُ رضي الله عنه في مكتوب له لأحد أمرائه فقال: علِّمُوا أولادَكم السباحةَ، والرمايةَ، وركوبَ الخيل، والخطابةَ والشِّعرَ([11]).

ويشتهر عن الخليفة الرابع علي كرم الله وجهه أنه كان يوصي بأنْ لا يُكرَهَ الأولاد على أخلاق آبائهم؛ لأنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانهم.

يدعو الإسلامُ إلى تحمُّل كل المصاعب في سبيل التعلم، ويُرغِّبُ في السفر لطلب العلم ولو كان في الصين، لذلك يحفظ لنا التاريخ أمثلة كثيرة عن محبّين للعلم تركوا ديارهم طمعاً في العلم، وجابُوا أمصاراً كثيرة جمعاً وتحصيلاً؛ لأن العلم كما يُروى ضالَّةُ المؤمنِ، يغدو في طلبه، فإذا أصاب منه شيئاً حَواه.

وعند الحديث عن أهمية رسالة التربية والتعليم وأولويتها نجد أن الإسلام قد أولى أهمية بالغةً لمعرفة الله كما يليق به سبحانه، ثم تربية النفس التي هي الأساس الذي تبنى عليه الأخلاق، فكما هو مبيَّن في الآيات (48) و(116) من سورة النساء يُبيّن الله عز وجل أنه غفّار لجميع الذنوب ما عدا الشركَ به سبحانه؛ لأن الإنسان مكلَّف في هذه الدنيا بمعرفة الله قبل كل شيء.

جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أحبِّ العمل فقال: "الإيمان بالله"، ثم أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال: يا رسولَ الله إنما أسألُك عن العمل، فقال: "إنَّ العلمَ ينفعُك معه قليلُ العمَل وكثيرُه"([12]).

كلُّ مَن يصلُ إلى هذا الفهم الجليل يُسمَّى باصطلاح التصوّف "عارفاً"، والعلماء الذين تمدحهم كثير من الأحاديث هم العارفون، لذلك فإن إدراك هذا الأمر شرط لفهم الآيات والأحاديث على وجهها الصحيح، كما أن كثيراً من الأحاديث أشارت إلى هذا المعنى، من بينها:

"العُلَماءُ ورَثةُ الأنبياءِ"([13]).

"فضلُ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائر الكواكبِ"([14]).

"نومُ العالمِ خيرٌ من عبادةِ الجاهلِ"([15]).

"وُزِنَ حِبْرُ العلماء بدم الشهداء، فرجَحَ عليهم"([16]).

أما تربية النفس فهي من أولى الأهداف في الإسلام، وبها ترتبط سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، حيث تُبيّنُ الآيتان (9) و(10) من سورة الشمس: أنَّ مَن زكَّى نفسه أفلح، ومن أغرقها بالسيئات خاب.

والحرب التي يخوضها الإنسان ضدَّ السيئات التي في نفسه أفضل من حربه لعدوِّه في جبهات القتال، حيث قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات مرَّة لأصحابه الذين عادوا من الغزو: "لقد عُدْتُم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" أي: جهاد النفس([17]).

وفي ذلك إشارة إلى أهمية جهاد النفس؛ لأن أصل الخُلق الحسن ومعينه الأول هو تربية النفس، والخلق الحسن من أهم مقاصد الدين كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ"([18]).

هكذا أكون قد استعرضت على قدر الوُسع بعض الآيات والأحاديث والأحكام التي تشجع الإنسان بشكل كبير على العلم والتعلم، وتؤكِّد على أهمية الانشغال بجميع أنواع العلوم، والسعي إلى تربية النفس، والتحلِّي بمحاسن الأخلاق.

وما التطور المعجز والازدهار المعرفي الكبير الذي عرفه الإسلام في عصوره اللاحقة إلا دليلاً على حجم الأثر الذي تركته تلك الآيات والأحاديث والأحكام.

وعليه يتحتَّمُ علينا إعادة الاعتبار لتلك القوة التربوية الكبيرة التي يدعو إليها دينُنا، وعلينا أن نتجه أفراداً ومجتمعاً من جديد إلى الاهتمام بالعلم والتربية والتعليم.

وفَّقني الله وإياكم في هذا الطريق، وأسعدَنا به.


* المقالات الرئيسية  Başmakaleler 4: İdeal Yolالطريق المثال 2010 Server İletişim, İstanbulص 74-83.

([1]) "On Education", Immanuel Kant, çev. Annete Churton, USA Boston, D. C. Heath & Co., Publishers, 1900, (ص: 6).

([2])"Some Thoughts Concerning Education and of the Conduct of the Understanding", haz. Ruth W. Grant and Nathan Tarcov, Indianapolis: Hackett Publishing Co. Inc. , 1996, (ص: 10).

([3])“Doric Speech of Syracuse”, Archimedes, John Tzetzes, Book of Histories (Chiliades), çev. Francis R. Walton ، الطبعة الثانية، (ص: 129 - 130).

([4]) لم نعثر على مصدر لهذه المقولة التي تعود إلى غوتفريد لايبنتس.

([5]) "سنن ابن ماجه"، المقدمة، (17) (227)، و"مسند الإمام أحمد بن حنبل" (2: 418) (9409)، و"مسند أبي يعلى" (11: 359) (6472)، و"المعجم الكبير" للطبراني (6: 175) (5911).

([6]) "البخاري"، فرض الخمس (3113)، والنفقات (5361)، والدعوات (6318)، و"مسلم"، الذكر (2727) (80)، و"أبو داود"، الخراج (2988)، والأدب (5062)، و"الترمذي"، الدعوات (3408، 3409)، و"النسائي"، النكاح (3382)، و"ابن ماجه"، الزهد (4152)، و"مسند الإمام أحمد بن حنبل" (604، 740، 838، 996)، و"سنن الدارمي"، الاستئذان (2688).

([7]) طه: 114.

([8]) "ابن ماجه"، المقدمة (229)، و"مسند الطيالسي" (2251)، و"مسند الدارمي"، المقدمة (349)، و"مسند البزار" (2458).

([9]) "المعجم الكبير" للطبراني (23: 182) (294).

([10]) "مصنف ابن أبي شيبة" (31037)، و"مسند الدارمي"، الفرائض (2859)، و"سنن سعيد بن منصور" (287)، و"المعجم الكبير" للطبراني (23: 181) (291)، و"المستدرك" للحاكم (6736)، و"مجمع الزوائد" للهيثمي (10: 388).

([11]) رواه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (1: 184)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6: 401) (8665)، و"السنن الكبرى" له (10: 15) عن أبي رافع رضي الله عنه.

([12]) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (267)، والسيوطي في "الجامع الصغير" (1240)، والمناوي في "فيض القدير" (2: 27) عن أنس رضي الله عنه.

([13]) "البخاري"، العلم (1: 24)، و"أبو داود"، العلم (3641)، و"الترمذي"، العلم (2682)، و"ابن ماجه"، المقدمة (223)، و"مسند الإمام أحمد بن حنبل" (21763)، و"سنن الدارمي"، المقدمة (342)، و"صحيح ابن حبان" (88) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

([14]) "الترمذي"، العلم (2682)، و"أبو داود"، العلم (3641)، و"ابن ماجه"، الافتتاح (223).

([15]) رواه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (4: 385)، والديلمي (6732)، والسيوطي في "الجامع الصغير" (9294)، والمناوي في "فيض القدير" (6: 291)، والعجلوني في "كشف الخفاء" (2: 1837).

([16]) رواه الجرجاني في "تاريخ جرجان" (ص: 91) (52) و(ص: 222) (355) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

ونسبه المتقي الهندي في "كنز العمال" (10: 309) (28899) لابن عباس معزواً إلى ابن النجار.

ورواه ابن الجوزيِّ في "العلل المتناهية" (1: 79 - 80) (82) عن عمرو بن العاص، وعزاه العجلوني في "كشف الخفاء" (2276، 3281) إلى الخطيب البغدادي.

([17]) روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه عند عودتهم من الغزو: "رجَعتُم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، فقالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: "مجاهدة النفس". انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (8: 523) (ضمن ترجمة واصل الصوفي). ونسبه المتقي الهندي في "كنز العمال" (4: 930) (11779) للديلمي.

([18]) رواه الإمام مالك في "الموطأ"، حسن الخلق (8)، والإمام أحمد بن حنبل في "المسند" (2: 381) (8939)، والبخاري في "الأدب المفرد" (ص: 104) (273)، والحاكم في "المستدرك" (2: 670) (4221)، والشهاب في "مسنده" (2: 192) (1165)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10: 191) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

مقالة “” الأستاذ الدكتور/ محمود أسعد جوشان رحمه الله