العدل والأخلاق*

العدل والتحلّي بالعدالة هما من أهمّ مهمّات الأخلاق. وإذا لم يتحقّق العدل فإنّ كلّ شيء يتزعزع من أساسه ويفسُد. لذلك قيل "العدل أساس المُلك".

القراءة بلغة أخرى

البروفيسور محمود أسعد جوشان (رحمه الله)

العدل هو مُهجة أعيُنِنا، وهو أساس حُكمِنا. وبدون العدل يفسُدُ المجتمع ويَمّحي. فلا يُجازى المُجرم ولا يتمكّن صاحب الحقّ من أخذ حقّه. لذلك فالعدل مهمّ جدّا.

قد تكون أمّةٌ ما رجعية وناقصة وبدائية وبسيطة، وقد تكون متخلّفة عن العصر؛ لكن إذا وُجِد العدل فإنّ كلّ تلك [العيوب] تُقوَّم في وقت قصير. سترونها تتقدّم وكأنّها ابنُ راعٍ مُجتهدٍ أصبح عالم ذرّة.

العدل والتحلّي بالعدالة هما من أهمّ مهمّات الأخلاق. وإذا لم يتحقّق العدل فإنّ كلّ شيء يتزعزع من أساسه ويفسُد. لذلك قيل "العدل أساس المُلك".

البناء لا يُبنى فوق الوحل. لا يُبنى فوق أرضٍ لا أساس لها، أو فوق أرضٍ رخوة، أو فوق منطقة على وشك الانهيار. لذلك فإنّ كلّ شيء يذهب بذهاب العدل. تذهب الحياة التجارية والحياة العائلية، ويُصبح الكسب حراما، وتفسُدُ العلاقات البشرية بين الناس والعلاقات بين الإخوة، ويزول كُلُّ شيء. لذلك فالعدل مهمّ جدّا. يجب أن يُقال الحقّ، يجب أن يُحكَم بالعدل.

أنتم تعلمون أنه تعالى قال في القرآن الكريم "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". "لا تفارقوا العدل ولو على أنفسكم، ولو على أمهاتكم وآبائكم –في حين أن الإنسان يحبّ أمه وأباه كثيرا ويفعل من أجلهما كلّ شيء- ولو على أقربائكم". وبالنظر إلى محيطنا وإلى مجتمعاتنا اليوم، لو كان فيها عدلٌ فما أحسن ذلك، ولكن إذا ذهب العدل، إذا لم يكن هناك عدل، إذا كانت جميع أنواع الأعمال الظالمة اللا قانونية السيّئة تُقترف، فالوضع حينها سيء جدّا. يجب تحقيق العدل أوّلا.

أنا أفكّر منذ زمن قديم، لماذا يميل الناس للعدل؟ لماذا يريدون العدل؟ هل هو صفقة متبادلة؟

لا يأكل أحد حقي ولا آكُل أنا حقّ أحد... إذا أُكِلَ حقّي فإنّ ذلك لا يُعجبُني، لذلك عليّ أنا أيضا أن لا آكُل حقّ الآخر. لأنّني إذا أكلت حقّهم فإنّهم أيضا سيأكلون حقّي. في النتيجة سيتضرّرُ حقّي.

هذا منطق مادّي... وهو مُمكن أيضا، يُمكن التفكير بهذا الشكل، لكنّ الإسلام لا يفكّر هكذا. فالإسلام يأمر بالتحلّي بالعدل بوصفه ضرورة من ضرورات الإيمان. وهو يوصي بالصّدق في القول والتحلّي بالصّدق وإن كان ذلك على النفس أو الأقارب أو الأم والأب، وإن كان بلا مقابل. إنّه يوصي بالتحلّي بالصدق من أجل كسب مرضاة الله. هذا أمرٌ أجملُ وأحلى. لذلك يجب تقوية الإيمان.

حسب رأيي، يجب أن يكون إيمان القُضاة وإحساسُهم بالمسؤولية قويّا جدّا. عليهم أن يعلموا أنّهم هُم أيضا سيُحاكمون غدا أمام المحكمة الكبرى، عليهم أن يؤمنوا بذلك وأن يتعاملوا بناءً عليه. وإذا كان الناس غير مؤمنين فإنهم متى وجدوا ثغرةً اقترفوا عيوبا لا يُدركُ حجمها وكيفيّتها أيّ أحد. أمّا الإنسان الذي يؤمن بالآخرة فإنه لا يرتكب الجُرمَ وإن كان وحيدا. لذلك يجب على الجميع أن يسعوا إلى تقوية إيمانهم بكلّ ما أوتوا من قوّة.

أذكر أنّني عندما كنت في العسكرية، كان الجميع يتهرّب من نوبة الحراسة ويسعى إلى تحميلِها غيرَهُ. وأنا أعرف إخوة مسلمين يذهبون إلى نوبة الحراسة بشوقٍ وحبّ تلبية لواجب إيمانهم وهم يتمثّلون أنّ "من يحرسُ ساعة في سبيل الله لا تمسّ عينه النار".

إذا تحقّق الإيمان فإنّ كلّ شيء يكون جميلا. العسكرية جميلة، والحراسة جميلة، والقضاء جميل، والتجارة جميلة، والعلاقات العائلية جميلة، والعلاقات الاجتماعية جميلة. أمّا إذا ذهب الإيمان، إذا لم يُخشى الله... يجب الخوف من هكذا إنسان؛ فهو يمكن أن يفعل أيّ شيء. [إذا ذهب الإيمان] تظهر الكثير من الأمور المستوجبة لتدخل القضاء، والكثير من الأمور المستوجبة لتدخل الشرطة، وتحصل الكثير من المظالم. الإسلامُ يُنظّف هذه الأمور من جذورها. فالأمر لا ينتهي بقتل الناموس واحدة واحدة، بل بتجفيف المُستنقع.

نحن في حياتنا الشخصيّة نعيشُ وسنعيشُ امتحانًا. وبعد ذلك سنشرب جميعا شراب الأجل وسَنُوضَع في قبورنا. سنذوق طعم الموت ونهاجر إلى الآخرة. فلنقُل لأنفسنا أنّنا "سنُحاسبُ أمام المحكمة الكُبرى" ولنتحرّى القيام بجميع أعمالنا بما يوافق مرضاة الله والتحلي بالعدالة والصدق بالقول والقلب.


*أُخِذت من مداخلةٍ قام بها البروفيسور محمود أسعد جوشان بتاريخ 26.06.1998.

مقالة “Adaletin Önemi*” Prof. Dr. M. Es'ad Coşan (Rh.a.)